فنون و ادبكتابنا
مثيولوجيا الثورة المصرية بين الحب وطيور الظلام.. شهداء المدينة التاريخية
حاتم عبدالهادى السيد
تتأنق رواية ” أجواء المدينة “للروائي المصري محمود قنديل، لتنضم إلى حركة “تيار الوعي” ورصد التاريخ؛ وعلاقة الشعوب بالأنظمة الحاكمة؛ ولعبة الحكم، وصور الشهداء من الشباب؛ وعلاقات شباب الميدان وأحلامهم، وقضايا كثيرة تطرحها الرواية بهدوء.
وترصد الرواية التاريخ والأحداث من بعيد؛ وتطرح رؤى تواشجية؛ وتكشف أنظمة طغت؛ وتؤطر لحركة الطليعيين، كما أنها تدين الجميع/ الموميات الصامتة؛ والذين ضيعوا الثورة أمام أعين الثوار كذلك .
إنها الرواية ؛ الشاهد على العصر؛ تستدعى المثيولوجيا لتربط القديم بالجديد، وتسترحم الشعب؛ وتكشف أنظمة الحكم ؛ وهنا – يعيدنا الروائي محمود قنديل إلى البوح؛ أدب الرسائل ؛ يوميات الثورة المصرية من خلال علاقة حب بين سامى ورنا، وزواج رحاب من عصام التي تركته ليلة الدخلة لأنها رأت زواجها خيانة لزوجها ولحبيبها الأول.
وعبر الراوي العليم وقصة الحب تأتي يوميات الثورة المصرية؛ حيث “رنا” فتاة ثائرة جميلة، تعرفت إلى سامي وأحبته وعشقها وكان يغار عليها من الثوار؛ ومن الأصدقاء على الفيس بوك.
وتأتى الرواية بصيغة السارد / النَّاص / الراوي الذى يتحدث بضمير الأنا؛ وكأنه يناشد حبيبة غائبة / حاضرة؛ يبوح لها؛ ويسرد أحداث الثورة من خلال تاريخ مصر ؛ والملك؛ حيث ملوك الفراعنة يستدعيهم ليعبر عن شخصية مصر عبر العصور؛ عبر سرد هادىء؛ بنشد تشاركية القارىء من خلال علاقة الحب ؛ التى يستدعيها عبر حوارية الذات؛ أو المناجاة لطيف الحبيبة الغائبة؛وإن خاتلنا بوجودها عبر مناجاته لها؛لكننا لمحنا الغياب في الحضور.
وركز على سرد الأحداث من خلال الراوي دون أن يعول إلى دراماتيكية الأحداث وتشابكاتها؛ ليصنع لنا السرد الأنيق؛ عبر لغة سيميائية، ومرموزات تعبر عن الثورة المصرية، وشعارات الميدان: “عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية،كرامة انسانية”؛ لكن البطل سامى نراه مهموماً لما بعديات الثورة، وقد صرح بهذا كثيراً : ماذا بعد اسقاط الرئيس ؟! .
ويقول : (- ليرحل الرئيس.. ليرحل ….كلنا يريد رحيله، ولكن ماذا بعد الرحيل. ..سامي، لا تحبطنا بكلامك هذا….فقط اسألكِ رنا، ماذا بعد الرحيل؟ ..لا يهم…بل هو الأهم. ..لنتخلص أولاً من هذا الكابوس، ثم نرتب أوراقنا .. بل كان علينا أن نرتب أوراقنا،ونحدد وضع خطانا، وننهي رسم خريطتنا، ثم نخرج لتحقيق مطالبنا) .
إنه الوعى بالأحداث عبر شعارات : “ارحل .. الشعب يريد اسقاط النظام”؛ لكنه كان مشغولاً ًفيما بعديات هذا الرحيل؛ وهو الأمر الذى لم يتنبه له الثوار أنفسهم ؛ فسقطت الثورة بين ” تجار الثورات، أو المتربصين بها؛ رافعين شعار الدين؛ والمتاجرة بأحلام الشعب، وطموحاته، إنها حكايات حب؛ نضال؛ ثورة فجرت الأبطال؛ واقتلعت الخيام؛ وسقط الرئيس من خلالها؛ ثم ماذا بعد اسقاط الرئيس سوى الصدمة الكبرى للثوار؛ لأولئك الورود التى تفتحت في جناين مصر؟!!.
إنها قصة الثورة / مصر التاريخ / النضال الوطنى ؛ عبر استدعاء الرمز؛ ومثيولوجيا الفراعنة، رادوبيس الجميلة؛ أو رنا الحديثة، وكل ملوك الفراعنة ؛ والشعوب التى لا تقبل الضيم عبر فترات التاريخ؛ حيث جثة الملك لا زالت تتهادى على النهر؛ وحيث الثوار في الميادين يهتفون بسقوط الظلم؛ ليرتفع الحب من جديد؛ وتعود الحرية تنشد حروفها بقوة؛ وهو هنا الراصد والشاهد للتاريخ؛ لجزء من تاريخ مصر، ونضال الشباب الذين خمدت ثورتهم بفعل المتربصين لحصد ثمرة الثورة المضيئة .
إنه صراع المدينة؛ القرية، السلطة عبر رحلة التاريخ المصرى، لذا رأيناه يستدعى المثيولوجيا التاريخية للفراعنة وثوراتهم؛ ويرى في رنا / رادوبيس المناضلة / مصر القديمة / الحديثة الثائرة.
إن الرواية تطرح مشهديات الأحداث من خلال علاقات حب فجرتها الميادين : رنا، رحاب، عصام، سامى وغيرهم؛ فهم مستقبل مصر الذى ضاع تحت سنابك الخيل، وفى موقعة الجمل، وجمعة الغضب، وغيرها .
وهى رواية راصدة للأحداث؛ لكنها تكشف عن جوانب رومانتيكية ؛ عن الحب الطاهر بتحرر الأوطان دون النظر إلى مستقبل ما، ودون تخطيط لما بعد الثورة، ولقد ترك لنا النهاية مفتوحة ليقول : إن الثورة لم تنته بعد؛ وأن الرحلة ممتدة للقضاء على الفساد، وأذنابه؛ لتتحرر الأوطان من جديد .
لقد قدم الكاتب محمود قنديل رواية مثيرة؛ قصيرة؛ لكنها عبرت عن أحداث الثورة والتاريخ المصرى ؛بهدوء، ودون تشنج ؛أو تعصب؛ بل أن هدفها الأول هو انتزاع الفساد؛ وقلع خيام الظلم من أجل الحرية؛ وتحرير الوطن من ربقة الفساد والإستبداد، لينطلق الفجر الجديد رافعاً شارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدل ، واستشراف مستقبل، وغد أفضل لمصر الحديثة وللأجيال القادمة .
إن الكاتب يركز على فكرة تنحية الظلم من خلال تنحية الرئيس؛ لكنه عبر – تيار الوعى – أطلق الأسئلة : ثم ماذا بعد الثورة ؟ ماذا بعد تنحية الرئيس؛ وكأنه يريدنا جميعاً – كشهود على العصر – أن نقف لنتأمل هذه الثورة من جديد.
ولقد جاء الإهداء ليمثل إدانة للجميع : (إلى الممياوات الراقدة في توابيتها، علَّها تُبْعَث من جديد..) . فهو يدين المثقفين، والسياسيين؛ وكل المستنيرين ؛ولقد استدعى التاريخ، علَّ أذناً تسمع؛ أو عينا ترى؛ علها تبعث من جديد لتتكلم؛ لتقول الحقيقة الغائبة؛ وتنتصر للمدينة الثائرة.
وتجىء النهاية لتؤكد خفوت صوت الثورة/ رنا / مصر / المحبوبة؛ فقد أخذوا حبيبته عنوة أمامه / محبوبته؛ مصر/ رنا ؛وهو لا يزل يصيح؛ ويستدعى الماضى، الحاضر، لكن قوة البطش شديدة، وترحل رنا رغم أنف الجميع لتسرق من جديد على أيدى جماعات المتربصين؛ والمستفيدين من سقوط الأنظمة، فهو يترك النهاية مفتوحة، ليشير إلى الراهن التاريخى الآنى؛ فلربما تتكشف أحداث جديدة؛ لكن الثورة بلا شك قد تاهت ؛لأنهم لم يخططوا لها ؛ ولم يبدوا اهتماماً بالسؤال الجوهرى في ما بعد الثورة، وماذا يمكن أن يحدث للثورة الهادرة.
وتقول الخاتمة : (يمتقع وجهي، ويرتجف جسدي، وترتعش شفتاي، وتضيع مني الحروف، وأنا أشاهد فارسكِ الأسير، يهبط من فوق فرسه ويقترب منكِ، يدعوكِ إليه فترفضين، كان يبدو متعبًا، وعلى وجهه آثار سفر، يشدك من ذراعكِ فتقاومين، وأجذبكِ من يدكِ فتخور قواي وتضعف قواكِ، وتصرخين…رنا، لا تتركيني ….تحملقين في عينيّ بنظرة مذعورة مقهورة …رنا، لا تتركيني ….وينتزعكِ الفارس ـ عُنوة ـ من بين يديَّ، يضعكِ فوق صهوة جواده، وينطلق بكِ بسرعة الريح ـ بين سماء وأرض إلى أن يعلو ويعلو ويعلو … والآن يا “رنا” أراكِ في السماء شارة مضيئة تأبَى الهبوط ).
لقد نجح محمود قنديل في تقديم رواية الرسائل؛ التاريخ المعاصر، الحب مقابل الظلم؛ والشعب مقابل النظام، والحرية مقابل الإستبداد؛ والمستحيل مقابل الحقيقة واليقين؛ ولكن البرهان ضاع بغياب رنا؛ خطفها، انتزاعها من بين يدى فرسانها لتتسلمها أيادٍ متربصة بالثورة والثوار، تسلقت الحكم؛ لتعيد رسم ضبابية المشهد من جديد؛ وكأنه أراد أن يقول : “وكأن لا ثورة قامت؛ ولا شهداء سقطوا .. بل غاب الثوار من جديد !!”.