فنون و ادبكتابنا

الأندلس بعيون مغايرة في رواية مجيتوس

كونية الرواية السيميائية المعاصرة

حاتم عبدالهادى السيد
 
أبدع باولو كويليو – في روايته “الخيميائى” – تجديدية شاهقة؛ للسيميائية الجديدة، بمعادلاتها الموضوعية والضمنية،والسياقية، عبر تاريخانية السرد السحرى السيميائى ليؤسس؛ ومعه من قبل ؛ أرنست هيمنجواى في : ” العجوز والبحر ” سرداً سياقياً مغايراً، عبر إعطاء السرد السياقى الروائى بعداً تاريخياً، عبر السيميائية؛ والتى تمثل منهاجية لضبط هارمونى السرد السيميائى الأثير.
 
وأرى / منير عتيبة في روايته – التى بين أيدينا – “مجيتوس ” ينافح فى أن يسير في فلكها، ولكنه يخاتلهما، ويفجؤنا كذلك؛ بتقديم رواية تجمع بين التاريخ، وأدب الرحلات، عبر المخيال الكونى، للرواية التى يجدد في أنسجة بنائيتها، وتكوينيتها المائزة، والماتعة، والجميلة أيضاً، والتى تنشد تشاركية القارىء – منذ البداية – عبر سؤال ” مجيتوس” لماريا، ولذاته : هل هو مجاهد، أم مجيتوس؟ عبر الغرفة الكونية التى تتصدر مسيرة السرد، وتحيلنا إلى أدب جديد سيميائى : ” أدب الغرفة الكونية “.
 
وتدور الرواية داخل الغرفة، الكوخ / المنزل الذى يعيش فيه مجيتوس مع ماريا، ليبدأ رحلة استرجاع ذاتى لحياته – عبر تقنيات ” الفلاش باك ” السينمائية “،وعبر سير الأحداث التاريخية التى تروى بطولات المسلمين وفتوحاتهم : في الأندلس وغيرها من البلدان، وعبر رحلات بحرية لاقاها مجيتوس في عرض البحر مع البحارة العشرين؛الذين يصنعون التاريخ، وهم يغنون مع ” زرياب “،أجمل أغانى البطولات.
 
ثم نرى كلاً منهم يستذكر حياته، بين محب عاشق لمحبوبته، وبين مكابدات وآهات وأوجاع لقصص البحارة، ومن بينهم ” مجيتوس ” بطل الرواية التاريخى، الذاتى، الكونى، ليؤسس ” لأدب الرحلات ” و” المغامرات “،و” أدب الحياة الإنسانى “، حيث يروى التاريخ الحافل بانتصارات وخيبات، وفرح وغناء كذلك .
 
إنه الروائى الشاهق منير عتيبة؛ ابن الأسكندرية/البحر والتاريخ؛ العافق زمردة السرد الإشراقى، المبهر والملغز، السيميائى، والواقعى، والرومانتيكى، والتاريخى، والنفسى؛ والسيموطيقى كذلك .
 
ولعلنا نستدعى السيسيولوجيا، وعلم اجتماع الأدب لندرس الشخصيات التى بدأ معهم رحلة ” استبطان ذاتى “، تَذَكَّرْ ،وتطهير نفسى، لصنع حياة جديدة، تجدد شخصياتهم، وتحولهم من أناس عاديين، إلى بحارة ، مغامرين، أبطال يصنعون التاريخ، ويغزون الدول لنشر الإسلام، عبر بلاد الفرنجة الممتدة، ومجاهل أوروبا في ” صقلية “، وعبر الفتوحات الإسلامية، التى يقدمها بمهارة، ويستدعيها ” كسياق سيميائى للرواية “، وعلى استحياء، ليهرب من سردية التاريخ، إلى فنيات الرواية الكونية التى تسع مواقف، وأحداث متشابكة، ومخاتلة، جميلة ، ومشرقة، وتجديدية أيضاً .
 
وتبدو ازدواجية الشخصية هنا بين مجيتوس البحارومجاهد؛ ذلك الرجل الذى شارك ” العشرين بحاراً ” لنشر دين الله، عبر رحلات الموت في البحر ذا العواصف،وهو هنا يتذكر، بعد مائة عام هى عمره/ رمزية التاريخ، فنراه يخرج حقيبته الجلدية ويقرأ ما كتبه عن هؤلاء البحارة العشرين ، وقد اشترك معهم ليتحول اسمه من مجاهد إلى مجيتوس، أو العكس.
 
فهى قصة ” عبدالرحمن سالم ” ؛الذى هرب من العشق إليه، وقصص البحارة الآخرين، قد كتبها ليروى حكايات الرحلة الصعبة وأهوالها في عرض البحر،وكان عبدالرحمن قد أوصى – حين رآه يكتب الشعر، ويؤرخ لقصتهم، ويوصيه بألا يكتب شيئاً عنهم إلا بعد الإنتهاء من رحلة الجهاد الكبرى تلك.
 
ويقول عبدالرحمن سالم لمجيتوس ( مجاهد ) : ( إذا أردت أن تكتب حكايتنا، فلا تخبر أحداً حتى يحتفظ قلمك بحريته).. في البداية لم يفهم المعنى، لكنه نفذ النصيحة، وبعد استشهاد عبدالرحمن، لم يكتب إلا بقلمه ومحبرته اللذين لم يفارقا حزامه معظم الوقت ،وحتى الآن لا يظن أنه فهم لماذا اتخذ قرار الكتابة هذا ؟.
 
وبينما هو على هذه الحال وماريا بجانبه رأيناه يُقَبِّلُ الأوراق ثم بدأ يقرأ فصول الرواية ؛ يحكيها ككاتب؛ أو راوٍ عليم، حيث بدأ بحكاية ” البحار رقم عشرين ” ثم يتابع مسيرة السرد حتى يأتى للبحار الأول : “مجيتوس” هو ذاته ” مجاهد” ، وكأن السرد يأخذ طريق دائرة كبيرة ، تتداعى فيها الحياة لهؤلاء داخل عقله.
 
وهو لم يخرج الأوراق إلا بعدما شعر أن قلمه – كما قال له عبدالرحمن – قد أخذ حريته، وربما لقربه من الموت، ولكنه صباح جديد، وهو يخرج لنا مذكراته، ما كتبه، روايته، قصة البحارة الذين يشبهون ما لاقاه ” بحارة الأرجو ” من قبل ، عبر رحلة ” أسخيليوس” الأسطورية، وعبر السفينة التى تتماهى معها مع سفينة الأهوال ” لهوميروس” كذلك، وأهوال البحر مع “عجوز همنجواى” ،وما كان من روايات تعيد تأسيس الأساطير،ولكنها هذه المرة ” أسطورة عربية “؛عبر ” سفينة الجهاد لنشر الإسلام “،وفتح الممالك والبلدان، وأسطرة التاريخ ؛عبر الواقع السردى السيميائى الساحر، لحكايات هؤلاء البحارة العشرين، وحكايته كذلك .
 
إنها رواية انسانية بامتياز تتعدد فيها الشخوص والحكايات في عرض البحر، وتتعدد الأمكنة والمدن، والمعارك، والقصص؛ لتتلاقى في هدف الرحلة النبيل، وسير السرد الحكائى الإدهاشى،لنشاهد حكايات ” عثمان السندى “؛ ” يوسف أمير البحار ” الذى يصرخ وهو يضحك : ( عشرون رجلاً سيغزون صقلية ويعودون ملوكاً ، ويضمنون مكانهم في الجنة ) .
 
الكل يروى، يحكى ذكرياته، يتذكر : ” ابراهيم بن عامر، ورحلاته لمحاربة القشتالينن ، بينما عبدالرحمن سالم ينشد الشعر الحماسى، ويتذكر حبيبته ” عجب ” التى تركها، ليهرب من العشق إلى العشق، بعد ذلك، وحكاية صفىّ، علىِّ .. الأخوان المتبقيان من خمسة أخوة ؛وهبوا أنفسهم للجهاد، وحكايات عبدالله البلوطى، وقصص” عيسى بن أحمد وأغانى ” زرياب ” الساحرة ، والموصلى، والموشحات الأندلسية الجميلة ،” حكاية مجاهد الذى يهرب من العمل مع أبيه في تجليد الكتب.
 
فقد رأى والده بكرشه الضخم يجثو على محبوبته ” عجب ” ويفتضها، فيترك له المكان، ويرحل بخيباته، قبل أن يرتكب جريمة بطعن والده بالخنجر، ليصبح شخصاً مأزوماً ، لكن النجاة تجيئه في الحلم : يحلم بإنسان يجيئه قبل الشروق ليسأله : من أنت ؟ فيجيب : أنا مجاهد، فيخبره بأنهم كلهم مجاهدون، ويشير له إلى البحر / الحلم للخلاص من الواقع؛ وفتح آفاق جديدة لرؤاه، وفتح الممالك، عبر ارادة فولاذية من عشرين رجل يريدون فتح ” صقلية ” ليعودوا ملوكاً ، أو يظفروا بالجنة، وقد كان أن فتحوا البلاد وحرروها، وها هو يكتب حكاياتهم عبر أهوال البحر، وعبر القتال على الأرض، وتعاملاتهم في الأندلس ، وحروبهم للأسبان وغيرهم .
 
إنهم شخصيات مأزومة نفسياً ، فلكل بحار حكاية يسردها هنا، لتتعدد الحكايات على سفينة الجهاد التى يركبونها، حيث الكل يحاول نسيان مآسيه، بغية تغيير واقعه، عبر رحلة الفتح المقدسة،وعبر رحلة ” التَّطَهّر الذاتى ” كذلك، والبوح بمكنونات الذات، قبل أن يلاقوا أهوال الموت، أو الخلاص والتغيير في عالم جديد، وفتوحات تغير من حالهم، وتعيد تجديد التاريخ، فتحيلهم إلى كائنات أسطورية، كبحارة الأرجو ،أو عبر رحلات مقاتلة التنين وأهوال الواقع في خيالات هومير، بل وعبر أهوال ” والدن “في روايته” من وحى الغابة “، ومغامراته مع الطبيعة والكون والعالم والحياة .
 
إنها رواية التاريخ، الخلود الإنسانى عبر المثيولوجيا، والمخيال الذى يربط الواقع بالحلم، والحقيقة بالخيال، لكنه الواقع يتجسد بوجود البحارة العشرين، وبوجود مجاهد” مجيتوس” الراوى التشاركى / البطل/ والشاهد على العصر كذلك .
 
إنها رواية التاريخ، تجسيد لفتوحات الخليفة الشاب/عبدالرحمن الناصر الذى يقود الجيوش بنفسه للفتوحات وحماية حدود الإسلام ، كما تحكى الرواية الخلافات بين الأسبانى الذى أسلم ،وكيف سيحارب أهله وبنى جلدته؟! .، فهى حكايات المولدين كما أسموهم، وكيف سيتعايشون في الأندلس ويصاهرون أهل قرطبة؛وهم الغزاة في نظرهم كذلك،رغم أن الإسلام يجب ما قبله؛ إلا انها مشاكل عبر الأجناس والملل ؛بين الجنس العربى والصقلبى، الأسبان والمولدين، والمسلمين،ومحاولات عبدالرحمن الداخل، والناصر لكسر شوكة العصبية العربية ؛وبين الصقالبة والبربر والطمكاشة في عصر الفتوحات الأموية للأندلس ” أسبانيا”.
 
كما تعكس الرواية الخلافات العربية؛وبعض الممارسات الخاطئة للجنود والأمراء، وربما القواد في تعاملاتهم مع الأجناس الأخرى؛ والأعراق للبلاد التى فتحوها ، في عهد ملوك الطوائف هناك.
 
إنها رواية تمزج السرد بالغناء، والرومانتيكية بالتراجيديا، ورهق المعارك بقصص الحب، كما تروى البطولات التاريخية للعرب عبر رحلة البحارة، أبطال الإسلام،المجاهدين الجدد، الرجال المخلصين لنشر دين الله، وتتقاطع مع أحداث التاريخ، فهى لا ترو التاريخ بذاته، بل تتقاطع معه عبر سيميائية الحكايات المختلفة، للأبطال العشرين؛ وما لاقوه في البلاد المفتوحة من مشكلات ومصاعب، وما كان من حكايات وبطولات حول حصن ” فراكينسستوم الأول ” وغيرذلك؛ عبر مدن أشبيلية؛ وقرطبة، وفى المملكة الأسبانية الممتدة الأرجاء.
 
كما يحكى مجون بعض البحارة بشرب النبيذ، ومعاشرة النساء، واللهو والعبث، وكأنهم يتناسون، أو يهربون من الواقع / الماضى، إلى الملذات مع المسبيات، من الجوارى، ليعكس انصراف العرب إلى المجون والملذات؛وركونهم إلى النساء والعاهرات كذلك، وهذا قد أدى بعد ذلك إلى سقوط الأندلس من أيديهم ، بل وطردهم منها نهائياً ،بل ورأى الكثيرون الموت الأسود، بعد ضعف الخلافة؛ مما حداهم للإختباء في دير الراهبات، وفى المغاور والأماكن البعيدة كذلك .
 
إن مجيتوس ” بدأ يقارن حاله بحال عبدالرحمن الداخل الذى هرب من العباسيين ليبتنى له ملكاً في صقلية،وهو الآن يماثله؛ويريد أن يبنى له ملكاً هنا كذلك ، ليصبح ملكاً على أندلس جديدة، في أوروبا الممتدة،ليصبح مثل “طارق بن زياد”؛ أول من وطأت قدماه أرض الأندلس .
 
لقد أصبحت للإسلام اليد الطولى في أوروبا؛ وتفوقوا على الهنغاريين، والنورمانديين،وملوك أوروبا الوثنية؛وانتشر الإسلام بشكل مذهل هناك، وسريع كذلك.
 
حكايات كثيرة ممتدة يرويها منير عتيبة؛ ومواقف تاريخية ممزوجة بخيال كاتب حاذق، وحكايات مغايرة ،وأحاديث عن العذراء مريم ،وحكايات ماريا، وغير ذلك فتشعر انك أمام عالم ممتد، أسطورة عربية نخش معه فيها عبر التاريخ، لنكسر جدار الغلالة، وندلف إلى الأحداث ، نتشارك في صنعها كقراء، نعايشها بعد أن تلبستنا، لنكتشف في النهاية انه كان يقرأ الرواية عبر أوراقه، من داخل غرفته الكونية التى أخذنا فيها عبر رحلة إلى بلاد الأندلس وحكاياتها، عبر اندغام قصص العشرين بحاراً ليصنع عالماً موازياً،فنياً.
 
يروى التاريخ،والواقع الإنسانى، يسرد شخصيات حقيقية بجانب شخصيات متخيلة؛ليعيد تجسيد التاريخ عبر فنتازيا الحكاية، ويعيد سرد حكايات وقيم وأحداث، ويشاكس بالواقع التخييلى، والأصيل بالمعاصر،والسيميائى بما بعد الحداثى؛ ليصنع لنا رواية عجائبية، فريدة، شاهقة، وشائكة تخاتلنا، وتجرنا عنوة لنكون مشاركين في الأحداث ، عبر اللعبة السردية المائزة، والماتعة، والمرهقة التى تأخذنا – عبر كتاب الحياة “،روايته، حكاية البحارة العشرين المسرودة؛والمخبأة داخل الحقيبة الجلدية، ليكشفها إلى العالم ،وهو قابع بجانب ماريا، يقرأ،ويدخلنا إلى الكون والعالم والحياة عبرغرفته الكونية ، بعد أن أخذنا إلى البحر، والممالك، والكون ، والعالم والحياة .
 
إنها رواية المعادلات الرمزية، والموضوعية، والفنية، عبر سيمياء الحلم، وفيزياء السرد المكتنز، الجمالى، وعبر لغة بصرية تشكيلية، يجيد رسم واصفاتها الدلالية السيموطيقية، وشخوصها، ومواقفها، ويرسم لنا عالماً يتسق والتاريخ، ويعيد انتاجيته بصورة فنية، وليست تاريخانية مملة، بل يحببنا فيه،عبر حكايات متشعبة، وقصص رومانتيكية شهية،وواقع أسنى لرواية القرن الجديد؛ر واية بطعم البهار الكونى الممتد الحالم،الشاهق، والباذخ، والجميل أيضاً .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى