قبائل و عائلات

قبيلة جهينة ودورها الحضاري في مصر وسودان وادي النيل منذ القرن الثالث وحتى القرن التاسع الهجري بقلم محمد العمرى

قبيلة جهينة ودورها الحضاري في مصر وسودان وادي النيل منذ القرن الثالث وحتى القرن التاسع الهجري
الجزء الاول
لعبت القبـائلُ العربيةُ دوراً كبيراً في كل من مصر وبلاد النوبة، وفي غيرهما من البلاد التي فتحها المسلمون، لاسيما ما قامت به تلك القبائل لنشر الـدين الإسلام، والثقـافة العربية. وكانت سياسة الـدولة الإسلامية، في بداية نشأتهـا، تهدف إلى تشجيع القبائل العربية وبطونها علي الهجرة إلى تلك البقاع التى فتحهـا المسلمون، ومن ثم الاستقرار بها، حتى تنصهر هذه الجماعـات العربية الـوافدة من “جزيرة العرب” مع الشعوب التى تقطن هذه البلاد، وكانوا يعتنقون إما المسيحية، أو بعض المعتقدات الـوثنية والأرواحية، وهو ما أتاح الفرصة لتلك الشعوب أن تتعرف عن كَثَب على الدين الإسلامي، وما يدعو إليه من أخلاق، ومبادىء سامية تَطيبُ لها القلوب.
وتُعد قبيلة جُهينة من أكثر القبـائل العربية التي تركت أثراً حضارياً كبيراً، سواءكان ثقافياً، أم إجتماعياً، أم إقتصادياً خاصةً دورها في تعريب مصر وبلاد النوبة منذ أن فتح العرب مصر سنة (21هـ/641م). وهذا هو الموضوع الرئيس الـذي تحاول هذه الأُطروحة مناقشته، والبحث فيه من شتي الجوانب الحضارية التى ارتبطت بوجود قبيلة جُهينة فى تلك البلاد. ويمكن القولُ بأنه منذ “الفتح العربـي”، وهجرات قبيلة جُهينة إلى وادي النيل الأوسط تكـاد لا تتوقف، إذ كانت جماعاتهم تأتـي من جزيرة العرب بحثـاً عن مستقر جديد لها في هذه البلاد، وكذلك سعياً وراء أسباب الـرزق، إذ ذاعت بين العرب الأخبـارُ التى تتحدث عن شُهرة أرض البجة بالمعادن النفيسة.
ومن ثم كـانت هذه البلاد مقصداً للعديد من الهجرات العربية، سواءاً تلك القبائل التي تنتمي لـ”قبائل عدنـان” وهم “عرب الحجـاز”، أم تلك التي تنتمي لـ”قبائل قحطـان” وهم “عرب اليمن”. وقد دفعت الظروف السـياسية وكذلك الاقتصادية العديد من بطون قبيلة جُهينة إلى البحث عن موطن لها فـي الصعيد بعد الفتح العربـي، ومن ثم انتشروا هناك حتى صـارت القبيلة الكبرى بالصعيد. كما كان عرب جُهينة من أكثر من ساهم من بين الجماعـات العربية في إزدهـار وعمران بلاد البجة.
وبمرو الزمن، اتجه أعداد كبيرة من عرب جُهينة إلى بلاد النوبة قـادمين من مدن الصعيد بمصر خاصة إبان عصر “دولة المماليك” (648- 923هـ/1250-1517م)، ثم توغلت جماعات منهم في هذه البلاد، ولعبوا دوراً كبيراً في سقوط ممالـك النوبة المسيحية، خاصة مملكة علوة، وساهموا في نشر العروبة والإسلام في هذه البلاد.
وإذا عدنا إلى الهجرات العربية إلى “مملكة المقرة” المسيحية، وأبرزها هجرة قبيلة جهينة وبطونها، وكذلك قبيلة ربيعة العربية، وغيرهما من القبائل الأخرى التي هاجرت إلى مناطق بلاد النوبة، وتؤرخ تلك الهجرة إلى حوالي بدايات القرن الثامن الهجري/ القرن الرابع عشر الميلادي.
ويبدو أن الظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها القبائل والبطون العربية لعبت دورًا كبيرًا في حدوث تلك الهجرات، حيث اتجهت جماعات من قبيلة جهينة جنوبًا نحو شمال بلاد النوبة، بينما ذهبت جماعات أخرى من ذات القبيلة إلى بلاد الحبشة، وعلى أية حال يشير المستشرق “هارولد ماكمايكل” Macmichael Harold، إلى أن أعدادًا كبيرة من جماعات وبطون قبيلة جهينة استقروا بين ثغر أسوان وبلاد الحبشة، وهو ما يدل على امتداد هذه الجماعات العربية في العديد من البقاع.
ويرجح البعض أن أكثر الجماعات العربية التي تنتسب إلى قبيلة جُهينة، وفدوا إلى مناطق وأقاليم سودان وادي النيل من مدن وأقاليم الصعيد الأعلى والأوسط، وتحديدًا عبر طريق “درب الأربعين” أو عبر “نهر النيل”.
ومن غير المستبعد قدوم هجرات عربية أخرى عبر طريق “البحر الأحمر” (بحر القلزم)، الذي اشتهر باسم “الطريق الشرقي”، ويُعتقد أن هجرة الجماعات الجُهنية وغيرهـا من القبائل العربية الأخرى تمت بعد اعتناق النوبيين الإسلام وقطع الجزية عنهم.
وكانت الهجرة قد بدأت إما بعد انتقال أمور الحكم والمُلك في بلاد النوبة إلى قبيلة بني الكنز العربية، وربما قبل ذلك الأمر بوقت قليل، وقد تعددت الأسباب التي أدت في نهاية المطاف إلى سقوط “مملكة المقرة” المسيحية حسب رواية المصادر التاريخية، منها دور قبيلة بني ربيعة وبطونها الأبرز في ذلـك الأمر، وتشير بعض المصادر إلى دور “الجُهنيون”.
وفي ثنايا رواية “القلقشندي” يُفهم أن العرب من “بني الكنز” تصاهروا مع عرب جُهينة في بلاد النوبة، ولعبوا دورًا في اعتناق النوبيين للإسلام، ولهذا قال: “يُحتمل أن أولاد الكنز من جُهينة أيضًا..”.
وهذه رواية في غاية الأهمية رغم أنها وردت بصيغة الاحتمال، ولعل من يطالع رواية “ابن خلدون” فإنه يفهم أيضًا ذات الأمر، حيث يشير إلى أنه في الصعيد الأعلى وحتى بلاد النوبة والحبشة كانت تسكن جماعات عربية متفرقة تنتسب جميعها لقبيلة جُهينة، ثم يشير إلى أن قاطني أسوان ممن ينتسبون لجهينة يعرفون بأولاد الكنز، وكان جدهم “كنز الدولة”.
وتؤكد رواية ابن “خلدون” وجود علاقة مصاهرة بين عرب جُهينة وبني الكنز في النوبة، وهذا الجيل هو الذي أسقط مملكة المقرة، وهي رواية تبدو أقوي إذا عدنا إلى القلقشندي الذي يذكر أولًا قول ابن خلدون ثم يورد رواية “العُمري” كأنه أراد التوفيق بين الروايتين، ولهذا يقول: “يُحتمل أن أولاد الكنز من جُهينة جمعًا بين المقالتين..”.
ويشير الدكتور مصطفى مسعد لدور جُهينة في سقوط مملكة المقرة من خلال رواية ابن خلدون: “وثمة عوامل أخرى مباشرة عجلت بسقوط مملكة النوبة المسيحية (يقصد المقرة)، من بينها ما ذكره ابن خلدون بصدد هجرة عرب جُهينة من مصر إلى بلاد النوبة..”.
وتبنى هذه الرواية “هليلسون” S. Hillelson الذي يقول: “إن سقوط مملكة النوبة المسيحية في دنقلة لا يعود للرخاء الذي جلبه جنود المماليك، بقدر ما كان بسبب الهجرات المتدرجة لعرب جُهينة هناك..”.
وهو ما يؤيد الرأي القائل بوجود دور لعرب جهينة وبطونهم في سقوط مملكة المقرة المسيحية، رغم أن الدكتور مصطفى مسعد يشير في ذات الـوقت إلى أنه ليس على يقين مما ذلك.
كما يرى كولين مكفيدي، أن عرب جُهينة لعبوا دورًا في انهيار “مملكة دنقلـة” (ويقصد بهـا: المقرة)، كما يرى أن انهيار هذه المملكة كان أيضا بسبب حملات سلاطين المماليك، خاصة الحملة التي أرسلوها في سنة 1276م (675هـ) والتي نهبت خلالها مدينة “دنقلة العجوز”.
ويعد الملك “كرنبس” في رأي (جـي. دي. فيج) J. D. Fage، آخر حاكم مسيحي ارتقى العرش في بلاد النوبة، ثم عين سلاطين المماليك ملكًا مسلمًا في سنة 715هـ/ 1315م، ويربط ك. ماكفيدي بين وجود هذا الملك وهجرات الجُهنيين وسقوط المقرة، ثم يقول: “ولم يمض وقت طويل حتى أُطيح بهذا الملك ومملكة دنقلة نفسها نتيجة لزحف قبيلة عرب جُهينة قـادمين من الشمال الشرقي..”.
وهو ما يؤكد حقيقة وجود دور فعلي لجهينة في سقوط مملكة المقرة، وقيل أيضا إن اسم هذا الحاكم المسلم “عبد الله نشلي”.
ويربط المستشرق هارولد ماكمايكل، بين هجرة بطون جُهينة وسقوط مملكة المقرة وقدوم جماعات جهينة إلى دارفور وبلاد الحبشة، وكان بنو الكنز قد زادت أعدادهم في بلاد النوبة بفضل الحملات المملوكية، ويؤيد ذلك أن السلطان قلاوون أمر والي قوص بأن يبعث بمدد عسكري للحملة التي أرسلها للنوبة وبها قبائل العرب، وكان أكثرهم من بني الكنز، وهو ما يؤكده المقريزي بقوله: “وقد غلب أولاد الكنز على النوبة وملكوهـا..”.
وتُشير بعض الكتابات التي تم الكشف عنهـا عند أحد أطلال القصور في “دنقلـة العجوز”، إلى أن الجزء العلوي من ذلـك القصر تحول إلى مسجد في سنة 717هـ/ 1317م، وهو ما يتوافق إلى حد ما مع تاريخ ارتقـاء أحد الملوك المسلمين للعرش في “مملكة المقرة”، وكان قبل ذلـك بسنتين.
ومن الـواضح أن عرب جُهينة ساهموا في إضعاف مملكة المقرة ثم سقوطهـا بعد ذلـك، وإن كان الـدور الأهم في حدوث ذلـك يعود إلى زعماء قبيلة بني ربيعة أو بني الكنز، وتم سقوط “مملكة المقرة” في سنة 723هـ/ 1323م، وهي ذات السنة التي انتقل فيها الحكم من ملوك النوبة المسيحيين إلى أقـاربهم من زعماء عرب بني الكنز (الكنوز) بفضل “نظام الأمومة”.
ويقوم هذا النظام الوراثي القديم على أنه يرث العرش ابن أخت الملك أو ابن بنت الملك، وليس ابن الملك حسب النظام الملكي المعروف، وربما تصاهرت جماعات من قبيلة جهينة مع بعض الجماعـات من قبيلة ربيعة (بنو الكنز) وحدث تقارب، فانضم الجُهنيون إلى عرب الكنوز، وهو ما حدا بمؤرخنا ابن خلدون إلى أن يشير في روايته المهمة في هذا الشأن إلى أن أولاد بني الكنز في أسوان كانوا من قبيلة جُهينة.
ومن ثم ذهب لذلـك أبو العباس القلقشندي في كتابه الموسوعي الموسوم بـ”صبح الأعشى” إلى: “يُحتمل أن أولاد الكنز من جُهينة أيضًا..”.
وعلى أي حال كانت المصاهرات التي تتم بين القبائل والبطون العربية وكذلك من غير العرب من الأمور المألوفة، رغم وجود بعض مظاهر العصبية القبلية، حيث كانت بعض القبائل تؤثر على أفرادها الـزواج من ذات القبلية، غير أن هذا لم يمنع مطلقًا الانصهار بين القبـائل عن طريق المصـاهرة والتزاوج، إذ إن ما يجعل بعض هذه القبائل تتصاهر مع السكان النوبيين المحليين رغم كونهم من غير عرقهم وعلى غير معتقدهم، يجعل من الأولى بهم مصاهرة بني جلدتهم وإخوانهم في الدين والعـرق.
وربما من أسباب تلك المصاهرة في رأي المؤلف، أن العرب من زعماء قبيلة جُهينة صـاروا مستقرين في إطار جماعات عربية قوية من حيث العدد والقوة في بلاد النوبة، وكانت لجماعات جهينة أعداد كبيرة في المدن والقرى بصعيد مصر، ثم هاجروا إلى بلاد النوبة بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية، وكذلك بسبب سوء العلاقـات مع سلاطين وأمراء دولة المماليـك واضطهادهم القوي لعرب جُهينة.
وقد وجد زعماء قبيلة بنـي الكنز في بطون عرب جهينة الذين كانوا قد استقروا في بلاد النوبة عضدًا وسند قويـًا لهم إذا وقع أمر ما، أو صراع بشكل أو بآخر مع زعماء النوبيين المحليين، ومن ثم أرادوا التقـارب مع الجُهنيين، وهي سياسة اتبعهـا بنو ربيعة منذ هجرتهم إلى بلاد البجة ومصاهـرتهم لزعماء الحداربة في مواجهة القبـائل العربية الأخرى المناوئة لهم.
كما تشير بعض المصادر إلى أن الجُهنيين لمـا استوطنوا بلاد النوبة أحدثوا الاضطراب والفوضى بها.. يقول ابن خلدون: “ثم انتشرت أحياء العرب من جُهينة في بلادهم واستوطنوها وملكوهـا وملؤوها عيثًا وفسادًا..”.. أما القلقشندي فـإنه يقول: “ثم انتشرت أحياء جُهينة من العرب في بلادهم واستوطنوها وعاثوا فسادًا..”.
وعلي أي حال فقد كان للوجود العربي- سواء لعرب بني ربيعة أو جُهينة- الدور الأبرز في سقوط مملكة المقرة، ويشير المستشرق “جروسمان” Grossmann إلى أن نهاية عصر النوبة المسيحية بدأت إرهاصاتها أيام دولة المماليك (648-923هـ/ 1250-1517م) بسبب انشغال بطاركة الإسكندرية بأزماتهم الداخلية، وإهمالهم لرعاياهم المسيحيين في بلاد النوبة.
وأدى ذلـك إلى أن كنيسة الإسكندرية التي اشتهرت باسم مؤسسها “مرقس الرسول” لم تعد ترسل الأساقفة بانتظام إلى كنائس بلاد النوبة، وكان آخر القساوسة الذين أرسلتهم يؤرخ إلى حوالي سنة 774هـ/ 1372م، وكان مرسل إلى كنيسة قصر أبريم.
ومن ثم أدى هذا التباعد إلى انقطاع الاتصال الروحي بين الكنيستين، وفتور الشعور المسيحي لدى النوبيين، خاصة مع ظهور الإسلام كدين جديد حمله المهاجرون العرب، وقد كان للحملات العسكرية التي أرسلها سلاطين دولة المماليك (648-923هـ/ 1250-1517م) لا سيما أيام السلطان الظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون، دورًا كبيرًا في سقوط مملكة المقرة المسيحية، ومن ثم انتشار العروبة والإسلام في بلاد النوبة.
وتعد مخطوطة عبدالله بن سعد بن أبي السرح، التي تنسب للمؤرخ المقريزي (ت: 845ه/ 1441مـ) من أهم المصادر التاريخية التي تحدثت عن تلك الحملات، ولعل أشهرها حملة سنة 674هـ/ 1275م.. تقول المخطوطة: “وفي سنة أربع وسبعين وستمائة، كثر خبث داود متملك النوبة، وأقبل إلى أن قرب من أسوان، وحرق عدة سواقي بعدما أفسد بعيذاب، فمضى إليه والي قوص، فلم يدركه، وقبض على صاحب الجبل في عدة من النوبة، وحملهم إلى السلطان الظـاهر بيبرس..”.
بينما تقول رواية أبي الفداء (732هـ/ 1331م) عن هذه الحملة: “وفيها.. جهز (أي بيبرس) جيشًا إلى النوبة، فساروا إليهـا ونهبوا وقتلوا، وعادوا بالغنائم..”، وكان شكندة ابن أخت داود (الثانـي) ملك النوبة قد قدم إلى مدينة القاهرة ليتظلم مما فعله خاله، فوجدها بيبرس فرصة للانتقام من ملك النوبة، ولهذا أرسل حملة بقيادة الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانـي، والأمير عز الـدين بن أيبك الأفرم مع شنكة (شكندة)، وكان معهم عدد كبير من الجنود من الأقاليم وعربان الصعيد، وكذلـك الزرافين والرماة ورجال الحراريق، فساروا في شعبان سنة 674هـ/ 1275م من القاهرة إلى بلاد النوبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى