مدينة الحجر.. حضارة منحوتة في الصخر تروي قصة الأنباط المنسية
أسماء صبحي – تعد مدينة الحجر، المعروفة عالميًا باسم مدائن صالح. واحدة من أبرز وأغنى المواقع الأثرية في الشرق الأوسط، وأحد أهم الشواهد الباقية على حضارة الأنباط خارج عاصمتهم الشهيرة البتراء. وتقع المدينة شمال غرب المملكة العربية السعودية وتحديدًا في محافظة العُلا، وقد ظلت لقرون طويلة محاطة بالغموض. قبل أن تكشف التنقيبات الأثرية عن قيمتها التاريخية والحضارية الفريدة.
جذور مدينة الحجر التاريخية
يرجع تاريخ الحجر إلى القرن الأول قبل الميلاد، عندما اختارها الأنباط لتكون ثاني أهم مدنهم بعد البتراء. وقد جاء هذا الاختيار نتيجة لموقعها الاستراتيجي على طرق التجارة القديمة. خاصة طريق البخور الذي ربط جنوب الجزيرة العربية ببلاد الشام ومصر. هذا الموقع منح المدينة دورًا اقتصاديًا محوريًا، وجعلها مركزًا تجاريًا وإداريًا مزدهرًا.
العبقرية المعمارية
ما يميز مدائن صالح هو طرازها المعماري الفريد، حيث تضم أكثر من 130 مقبرة منحوتة بالكامل في الصخور الرملية. تحمل واجهات هندسية متقنة تجمع بين التأثيرات النبطية، واليونانية، والرومانية. وهذه المقابر لم تكن مجرد أماكن للدفن، بل تعكس مكانة اجتماعية واقتصادية لأصحابها، وتظهر مدى تطور المجتمع النبطي في التنظيم والرمزية.
ومن أبرز هذه المعالم قصر الفريد، الذي يعد أكبر مقبرة منفردة في الموقع. ويعرف بتصميمه غير المكتمل، مما يمنح الباحثين أدلة مهمة حول أساليب البناء والتشييد في تلك الحقبة.
الحجر في النصوص التاريخية والدينية
حملت مدينة الحجر حضورًا لافتًا في المصادر الإسلامية، حيث ارتبطت بقصة قوم ثمود الواردة في القرآن الكريم. وعلى الرغم من أن الدراسات الأثرية تميز زمنيًا بين ثمود والأنباط. فإن الموقع اكتسب مكانة روحية خاصة جعلت التعامل معه تاريخيًا يتسم بالحذر والاحترام، وهو ما ساهم في بقائه محفوظًا نسبيًا عبر القرون.
الدور الاقتصادي والسياسي
لم تكن الحجر مدينة معزولة، بل كانت جزءًا من شبكة إدارية وتجارية متكاملة للمملكة النبطية. وقد لعبت دورًا في تحصيل الضرائب، وتأمين القوافل، وتنظيم حركة التجارة مما يعكس وجود نظام سياسي وإداري متقدم. كما تشير النقوش المكتشفة في الموقع إلى تعدد اللغات المستخدمة، مثل النبطية والآرامية، وهو دليل على التنوع الثقافي الذي شهدته المدينة.
في هذا السياق، يقول الدكتور عبد الله الزهراني، الباحث في آثار شمال الجزيرة العربية، إن مدائن صالح تمثل ذروة التطور العمراني النبطي خارج البتراء. وهي دليل واضح على قدرة الأنباط على توظيف البيئة الصحراوية لصناعة مدن متكاملة اقتصاديًا واجتماعيًا.
ويضيف الزهراني أن دراسة الحجر تساعد في فهم طبيعة التحولات الحضارية في شمال الجزيرة العربية قبل الإسلام، خاصة في علاقتها بالإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية.
الاكتشافات الأثرية الحديثة
خلال العقود الأخيرة، كشفت أعمال التنقيب عن شبكة متطورة لإدارة المياه. شملت قنوات وخزانات منحوتة في الصخر مكنت سكان المدينة من التكيف مع البيئة الجافة. كما تم توثيق نقوش جنائزية وقانونية تقدم معلومات دقيقة عن القوانين الاجتماعية والاقتصادية السائدة آنذاك.
الواقع المعاصر للموقع
في عام 2008، أدرجت مدائن صالح ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، لتكون أول موقع سعودي يحظى بهذا التصنيف. ومنذ ذلك الحين، شهد الموقع اهتمامًا متزايدًا في مجالات الحفظ الأثري والسياحة الثقافية، ضمن مشاريع تهدف إلى إعادة تقديم الموقع للعالم بوصفه شاهدًا حيًا على حضارة عربية قديمة.



