الخانقاه الصلاحية.. ذاكرة القدس الروحية والعلمية منذ التحرير
تعد الخانقاه الصلاحية واحدة من أبرز المعالم الدينية والعلمية في مدينة القدس، وهي مدرسة وزاوية صوفية أنشأها السلطان صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير المدينة من الصليبيين، ونسبت إليه، وأوقفها على الصوفية، لتكون بذلك أول خانقاه تقام في القدس بعد التحرير، وتحمل منذ نشأتها طابعا دينيا وروحيا وعلميا متكاملا.
تاريخ الخانقاه الصلاحية
لعبت الخانقاه الصلاحية دورا واضحا في الحركة الفكرية والدينية في القدس، إذ جاءت على هيئة مجمع معماري متكامل يضم غرفا للسكن ومسجدا ومرافق عامة، وخصصت لتعليم وقراءة القرآن الكريم وتدريس الحديث الشريف، فكانت مركزا يجمع بين العبادة والعلم والتصوف في آن واحد.
كلمة الخانقاه هي لفظة معربة من اللغة الفارسية، وتعني المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة والتأمل، ولذلك جاء تصميمها المعماري مزيجا يجمع خصائص المسجد والمدرسة، أما الغرف التي يختلي فيها المتصوفة داخل الخانقاه فيطلق عليها اسم الخلاوي، وقد عرفت الحضارة الإسلامية عددا من الخوانق الشهيرة عبر تاريخها، من أبرزها خانقاه السلطان بيبرس.
تقع الخانقاه الصلاحية في حارة النصارى داخل البلدة القديمة من القدس، وتحديدا خلف كنيسة القيامة، وتنسب إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي أنشأها عقب تحرير القدس من الفرنجة سنة 583 للهجرة الموافق 1187 للميلاد، وبعد عامين فقط من إنشائها أوقفها على الصوفية، لتبدأ مرحلة جديدة من دورها الديني والتعليمي، وفي سنة 840 للهجرة الموافق 1436 للميلاد، قام شيخ الخانقاه برهان الدين بن غانم ببناء مئذنة جميلة لها، أضفت على المجمع طابعا معماريا مميزا.
تتكون الخانقاه من مسجد وغرف للسكن ومرافق عامة، وتزخر سجلات محكمة القدس الشرعية بوثائق وحجج تتناول شؤونها الوقفية والإدارية والتعليمية، إضافة إلى تفاصيل تتعلق بشؤون موظفيها وحياتهم اليومية والاجتماعية، وتشير وقفيتها إلى أن صلاح الدين الأيوبي أوقف لها حمام البطريك وبركته، وبركة ماملا، وأراضي زراعية في منطقة البقعة، إلى جانب عدد من الحواكير والدور والدكاكين، كما برزت في وظائف الخانقاه عائلات مقدسية معروفة مثل العلمي وعناية الله الغزي وبني غانم والمهندس.
وتذكر المرويات التاريخية أن صلاح الدين الأيوبي كان يتوجس مما كان يقوم به الصليبيون داخل كنيسة القيامة من اجتماعات وإخفاء للأسلحة، لذلك جعل من الخانقاه مركزا للمراقبة، ولا تزال مفاتيح أسطح الكنيسة محفوظة لدى عائلات مقدسية مسلمة حتى اليوم، وتشير بعض الروايات أيضا إلى أن الخانقاه الصلاحية عرفت باسم دار البطرك، لأنها كانت في الأصل بيت بطرك الصليبيين اللاتين، وتحيط بالكنيسة من الجهتين الشمالية والغربية، ما منحها موقعا استراتيجيا بالغ الأهمية.
يتم الدخول إلى الخانقاه عبر مدخل معقود يؤدي إلى ساحة داخلية، تقابلها مباشرة قاعة مسجد صغير، ويقود سلم حجري إلى الطابق الثاني حيث يوجد مسجد كبير فتح له محراب في جداره الجنوبي يتميز بجمال تصميمه، وفوقه نقش رخامي يحمل اسم المتولي عيسى بن أحمد بن غانم، ويشير إلى تجديد المجمع في عهده سنة 741 للهجرة الموافق 1340 للميلاد، أما بقية أجزاء الخانقاه، فقد خصصت للسكن، وهي غرف علوية كانت مخصصة لإقامة الصوفيين وشيخ الخانقاه.
ينقسم المجمع المعماري للخانقاه إلى أربعة أقسام رئيسية، الطابق السفلي ويضم غرفا لا يزال يسكنها المقدسيون حتى اليوم، والطابق الثاني ويحتوي على مسجد كبير وآخر صغير إضافة إلى الخانقاه، والطابق الثالث ويضم المدرسة، أما الطابق الأخير فيحتوي على بيت آخر لمتولي الوقف عبد المعطي العلمي، وتسكنه في الوقت الحاضر ابنته، كما تضم الخانقاه مكانا عاما للجلوس وصالة للطعام ومكانا للتدريب العسكري، ما جعلها في زمنها مركزا إسلاميا متكاملا في مدينة القدس، وقد بقي وقفها للمسلمين قائما منذ عهد صلاح الدين وحتى فترة الاستعمار البريطاني لفلسطين.
في العصر الحديث تستخدم الخانقاه مدرسة شرعية تابعة للأوقاف الإسلامية، وتحمل اسم مدرسة الخانقاه الأساسية الشرعية، وتضم فصول التعليم الأساسي من الصف الأول حتى الصف السادس، ويدرس فيها نحو 140 طالبا وطالبة المنهاج الشرعي، وتعتمد في إصلاحاتها ونفقاتها على التبرعات التي تقدم للأوقاف الإسلامية.
وقد أدت الخانقاه دورا تعليميا ودينيا مهما على مدى قرون طويلة، وأضيف إليها في فترات مختلفة مسكن وفرن ومتاجر وبركة عرفت باسم بركة السلطان أو البطرك، وخصصت منذ نشأتها لتعليم قراءة القرآن الكريم وتجويده، وحفظ الحديث النبوي الشريف، حيث كانت تقام فيها قراءة يومية للقرآن بعد صلاة العصر، كما كان قراؤها يتلون القرآن في المسجد الأقصى المبارك كل يوم جمعة بعد طلوع الشمس.
ومع تعاقب السنين تبدلت بعض وظائف الخانقاه، فظل مسجدها عامرا بإقامة الصلوات الخمس، في حين تحولت غرفها الأخرى إلى دور للسكن، لتبقى الخانقاه الصلاحية شاهدا حيا على تاريخ القدس الديني والعلمي، وذاكرة متجذرة في هوية المدينة وروحها.



