الغجر.. شعب الترحال والأساطير المتوارثة بين التهم والحرية

اتهامات بالجملة تلاحق الغجر أينما ذهبوا، فهم في أعين كثيرين رموز للفوضى والضياع وسوء الفهم، يوصفون باللصوصية والانحلال وبيع الهوى وتبدل الوجوه، يلاحقهم المجهول في كل بقعة من العالم، كما تحيط بهم نظرات الريبة من كل زاوية، يعيشون في عزلة تامة عن المجتمعات التي يمرون بها، ومع كل ذلك لم يتوقفوا عن الحياة، بل بقوا يغنون أغنية واحدة منذ قرون، أغنية البقاء.
من هم الغجر
في حياة الغجر لا يوجد استقرار، يرحلون من أرض إلى أخرى، يحملون خيامهم ورياحهم وخيولهم، ويعيشون على الغناء والرقص تحت سماء لا تعرف القيود تطاردهم قوانين الدول كلما حاولوا الاستقرار، وتُسلط عليهم أعين الشكوك باستمرار، قيل عنهم إنهم يولدون ليمارسوا السرقة، ويتعلمونها كفن متوارث، فمنذ الطفولة وحتى الكهولة يعيش الغجري في عالم مليء بالتهم والملاحقات، حتى عندما يكون بريئًا.
يطلق الغجر على أنفسهم ألقابًا متعددة مثل أولاد الطرقات، أبناء الرياح، شهود الزمان، بينما أطلق عليهم هوميروس اسم شعب النجمة، وتقول بعض الروايات إنهم من نسل قابيل، الابن الأول لآدم، الذي فرض عليه الترحال بعد قتله أخاه هابيل، فتوارث الغجر لعنة الترحال.
اختلفت الروايات حول أصلهم، فهناك من يرى أن كلمة الغجر مشتقة من لغة هندية قديمة تسمى الغجراطية، وأشار حمزة الأصفهاني في كتابه تاريخ ملوك الأرض إلى أن تسمياتهم كثيرة، تتراوح بين التتار والكفار والقرج واليهود والفرس وغيرهم، بينما رأى هنريتش غريلمان أن أصولهم تعود إلى طائفة من الهراطقة اليونانيين.
نسب الغجر
العرب أطلقوا عليهم اسم الذط، ويعتقد بعض الباحثين أن كلمة الغجر جاءت من اللفظ التركي كوجر، بمعنى الرُحل، وربما تصحفت عن القاجاري، نسبة إلى قبيلة تركية، بينما رأى مصطفى جواد أن أصل تسمية الكاولية يعود إلى كابل الأفغانية، وربط الأب الكرملي الكلمة بطائفة كافرة في الهند.
في اللغة الإنجليزية يسمونهم جبسي، بينما اعتمد مؤتمر الغجر في سويسرا عام 1979 اسم روم للإشارة إلى الغجري و روما للجمع، كما سمّوا لغتهم بالرومانية، وظهرت افتراضات تقول إنهم يهود طُردوا من مصر، أو أنهم المصريون الذين طاردوا اليهود في الصحراء وتاهوا هم أنفسهم خلالها.
يُعد الغجر من أكثر الشعوب غموضًا، حيث لم يعرف أصلهم بدقة، بل تداول الباحثون روايات متضاربة عن بداية ظهورهم، فالبعض يرى أنهم قدموا من أفغانستان، ومروا بالشرق الأوسط، وتفرعوا إلى من عبر إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، ومن وصل إلى إيطاليا وفرنسا واستقر في إسبانيا، بينما يعتقد آخرون أن غجر إسبانيا هم بقايا المسلمين الذين طُردوا من الأندلس.
عند صعود الحزب النازي في ألمانيا عام 1933، لم يفرق النازيون بين اليهود والغجر، واعتبروهم عرقًا أجنبيًا تجب تصفيته، فتعرضوا للاضطهاد مثلهم مثل غيرهم من ضحايا النازية.
ثقافتهم تقوم على الحرية المطلقة، لا يحملون موروثًا أدبيًا ثابتًا، ولا أسماء معروفة في عالم الأدب أو الفكر، بل يعتمدون على الأغاني الارتجالية التي تُغنى لتُنسى، هدفها إدخال الفرح على القلوب دون الاحتفاظ بها، رغم ذلك ظهرت أسماء نادرة كسرت القاعدة، مثل برونسلافا واجس الشهيرة باسم بابوسا، التي أرخت لرقصات الغجر وموسيقاهم في عدد من البلدان، كما جمعت مس يتس قصائدهم الشعبية، ووثق راد أوليك أغانيهم في كتاب صدر في بلغراد عام 1982.
في الأدب العالمي، تفاعل بعض الكتّاب مع الغجر بإيجابية، مثل ميغيل دي سرفانتيس الذي كتب عنهم في لا جيتانيلا، وجورج بيزيه الذي مجد حياتهم في أوبرا كارمن، ومكسيم غوركي الذي أبدع في وصفهم في رواية الغجر يصعدون إلى السماء، وألكسندر بوشكين الذي تغنّى بحريتهم، كما ظهرت شخصيات غجرية خالدة في روايات مثل روميو وجولييت ومائة عام من العزلة.
تقاليدهم مليئة بالرمزية، للغجري ثلاثة أسماء، أحدها سري تُهمس به الأم لطفلها فور ولادته ليبقى مخفيًا عن الأرواح الشريرة، وعند الوفاة تُحرق ملابس الميت وعربته، وتُدفن معه مقتنياته، وتُراقب الجنازة لحمايتها من الشر، أما النساء فتُدفن معهن مجوهراتهن وكل ما يملكن من أشياء ثمينة.
أحد أكثر الروايات تداولًا عن أصلهم تقول إن الزير سالم بعد انتصاره على قوم جساس في حرب البسوس أمرهم بالتشرد ومنعهم من إشعال النار، وعندما مات، احتفلوا وأوقدوا نيرانًا هائلة، فصار يُطلق عليهم اسم النوّر نسبة إلى تلك النيران.
أما عربات الغجر، فتزين برسوم ملونة، خلفها حكاية عن فتى صمم عربته من أجل عروسه، ثم ماتت، فخلد ذكراها برسم وجهها إلى جانب وجهه على العربة، وانتقلت هذه العادة إلى بقية الغجر فأصبحت رمزًا لعشق لم يكتمل.
هكذا بقي الغجر شعبًا مختلفًا، محاصرًا بالأحكام المسبقة، لكنه لم يفقد صوته في الغناء ولا خطوته في الرقص، متمسكًا بحريته وخصوصيته، باحثًا عن وطن في قلب كل طريق.



