الضبع الأسود.. أسطورة من قلب الفالوجة تهزم الحصار والخيانة وتخلد درس البطولة

في ربيع عام 1948، اشتدت رياح الحرب فوق أرض فلسطين، فانطلقت الجيوش العربية بقلوب مشتعلة بالإيمان والعزيمة لمواجهة العدو الصهيوني بعد انتهاء الانتداب البريطاني، من بين تلك الجيوش، تقدمت القوات المصرية بقوة وإصرار بهدف تطويق تل أبيب وقطع الطريق على تمدد العدو.
من هو الضبع الاسود
لكن، ومع أن الخطة كانت جريئة، إلا أن ضعف التخطيط وغياب الدراسة الدقيقة جعل خطوط الإمداد المصرية مكشوفة وطويلة وسهلة الاستهداف، فاستغل العدو هذه الثغرات وبدأ في تنفيذ هجمات مباغتة، قطع خلالها الطرق وعزل بعض القوات في مواقع متفرقة.
وسط هذا الارتباك، ظهرت قرية الفالوجة كرمز للمقاومة والصمود، تلك القرية الواقعة على بعد ثلاثين كيلومتراً شمال شرق غزة، وسط سهل ساحلي محاط بتلال منخفضة، وعلى مفترق طرق حيوي. كانت الفالوجة، التي حملت اسم الصوفي العراقي شهاب الدين الفالوجي، قرية تنبض بالحياة، تضم مسجداً بثلاث قباب، ومدارس، وأسواق، وآبار تغذي الأرض الخصبة. لكنها في ذلك العام، تحولت إلى ساحة معركة شرسة يقودها رجل واحد لم يعرف الهزيمة.
هذا الرجل هو اللواء سيد طه، سوداني الأصل، الذي عُرف بين جنوده بلقب الضبع الأسود. كان قائداً محنكاً يقود لواء يضم نحو أربعة آلاف جندي، أي ما يقرب من ثلث القوات المصرية في فلسطين، عندما صدرت الأوامر بالانسحاب لتقصير خطوط الإمداد، رفض سيد طه المغادرة، مدركاً أهمية موقع الفالوجة، ومؤمناً بأن الصمود فيها قد يقلب موازين الحرب.
فرض العدو الصهيوني حصاره على القرية وقطع عنها الإمدادات، وبدأت المؤن تتناقص ومعاناة الجنود تزداد، لكن سيد طه لم يهتز، كان يتنقل بين المواقع بنفسه، يشجع جنوده، يزرع فيهم الثقة، ويمنع أي حديث عن الاستسلام.
حين وصلت مجموعة من الضباط البريطانيين بقيادة ميجور لوكت، واقترحوا خطة انسحاب تحت إشراف الجيش الأردني، أدرك سيد طه سريعاً أن هناك خيانة تلوح، فرفض الخطة وطردهم من معسكره، معلناً عزمه على القتال حتى الطلقة الأخيرة والجندي الأخير.
في ليلة السابع والعشرين من سبتمبر عام 1948، شن العدو هجوماً مزدوجاً على الفالوجة وعراق المنشية، محاولاً إشغال القوات في الفالوجة بينما تنقض قوة أخرى على المنشية، لكن يقظة الضبع الأسود أفسدت المخطط، فقامت قواته بصد الهجوم ببسالة، وكبّدت العدو خسائر فادحة وصلت إلى 98 قتيلاً من أصل 600، واضطر العدو للتراجع تحت النار.
استمر الحصار وازدادت معاناة الجنود، فنفدت المؤن وساءت الحالة الصحية وارتفع عدد المصابين، بينما فشلت المحاولات الجوية لإيصال الإمدادات بسبب شدة الحصار عندها، ظهرت بارقة أمل حين تطوعت مجموعة من الفدائيين لتنفيذ عملية اختراق سرية. وبالفعل، نجحوا في إدخال مئة صندوق محمولة على 53 جملاً، ولتحفيز جنوده، ذبح سيد طه خمسين جملاً وقدمها كطعام، تاركاً ثلاثة فقط للنقل، مما رفع من معنويات الجنود بشكل كبير.
هذا التحرك أثار قلق العدو، فظن أن أمراً ضخماً يجري داخل المعسكر، فشن هجوماً عنيفاً هو الأشرس منذ بدء الحصار، لكن شجاعة الضبع الأسود وقوة رجاله كانت كفيلة بإفشاله، فعاد العدو خاسراً من جديد.
عندما انتهت الحرب، استقبل الشعب المصري جنوده العائدين كأبطال. أقام الملك فاروق حفلاً كبيراً لهم، وصافح كل جندي بيده، ومن بينهم جمال عبد الناصر، أما أم كلثوم، فقد أعدت مأدبة في فيلتها خصيصاً لجنود الفالوجة، وأقامت حفلاً تكريمياً في نادي الضباط.