بلدوين الرابع.. الملك المجذوم الذي تحدى المرض وخاض معارك المصير

في زمن كان الجذام يعني الموت البطيء والعزلة القسرية، نشأ شاب كسر هذه القاعدة وتحدى المصير، بلدوين الرابع، ملك القدس الشاب، الذي واجه المرض والصراعات بصلابة استثنائية، ولد عام 1161، وظهرت عليه أولى علامات الجذام وهو في التاسعة، عندما لاحظ معلمه وليم الصوري أنه لا يشعر بذراعه اليمنى، لكن مكانته الملكية حالت دون نفيه كما جرت العادة مع المصابين بهذا المرض.
من هو بلدوين
رغم إصابته، امتلك بلدوين ذكاء حادا ومهارة فائقة في القتال، وبعد وفاة والده عام 1174، اعتلى العرش وهو في الثالثة عشرة، فواجه تحديات جسيمة، لجأ إلى ارتداء قناع فضي لإخفاء آثار المرض، لكنه زاد من معاناته بدلا من أن يخففها، في البداية، تولى ريموند الثالث، حاكم طرابلس، الوصاية على العرش، فعقد معاهدة سلام مع صلاح الدين الأيوبي عام 1175.
عند بلوغه سن الرشد عام 1177، تولى بلدوين السلطة بنفسه، فرفض الالتزام بمعاهدة ريموند، وقاد غارات على دمشق وسهل البقاع، كما وضع خطة لغزو مصر، فأرسل رينولد دي شاتيون للتفاوض مع الإمبراطور البيزنطي لتأمين دعم بحري، في نوفمبر من العام نفسه، انتصر على صلاح الدين في معركة تل الجزر قرب الرملة، مجبرا جيشه على الانسحاب إلى مصر.
لكن هذا الانتصار لم يدم طويلا، فقد تعرض لهزائم متتالية، أبرزها غارة فخر الدين فرخشاه على بانياس، وهزيمته على نهر الليطاني، التي كادت تودي بحياته، مع تدهور صحته، عين ابن أخته بلدوين دي مونفيرا وليا للعهد عام 1184، ثم مساعدا له في العام التالي، حتى توفي في ربيع 1185، تاركا العرش لابن أخته البالغ من العمر خمس سنوات.
معركة حطين.. نقطة التحول في الصراع
بعد وفاة بلدوين الخامس عام 1186، اندلعت صراعات داخلية بين الصليبيين حول العرش، استغل صلاح الدين هذه الفوضى، فحشد قواته من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر، ثم انطلق من دمشق في مارس 1187، حاصر حصني الكرك والشوبك، ثم توجه إلى بانياس لمراقبة تحركات خصومه، في المقابل، احتشدت القوات الصليبية في صفورية، بقيادة ملك القدس وريموند الثالث.
في الثالث من يوليو 1187، بدأت معركة حطين، حيث حاصر صلاح الدين الصليبيين في سهل حطين، مستغلا العطش ووعورة التضاريس، أشعل جنوده النيران في الأعشاب الجافة، فاجتمع الدخان والحرارة على الصليبيين، مما أدى إلى انهيارهم، حاول ريموند اختراق الحصار لكنه سقط في الفخ، ثم فر إلى طرابلس، تاركا الجيش يواجه مصيره، ومع سقوط خيمة الملك، استسلم الصليبيون، لتنتهي المعركة بانتصار ساحق لصلاح الدين.
رغم الهزيمة في حطين، تمكنت الحملة الصليبية الثالثة من استعادة أجزاء من الساحل الفلسطيني، وأصبحت عكا عاصمة للمملكة بدلا من القدس، لكن الصراعات الداخلية والتنافس على العرش أضعفا الكيان الصليبي، فشهدت المملكة تحالفات مع ممالك صليبية أخرى مثل طرابلس وأنطاكية، إضافة إلى محاولات تقارب مع المغول، إلا أن هذه المناورات لم تحمها من المصير المحتوم.
مع صعود المماليك، قاد الظاهر بيبرس والأشرف خليل حملات متواصلة لاستعادة المعاقل الصليبية، حتى سقطت المملكة نهائيا عام 1291، لتطوى صفحة من تاريخ الصراعات الكبرى في المنطقة.