آسية بنت مزاحم: ملكة القصور وشهيدة الإيمان

نشأت آسية بنت مزاحم ملكةً في القصور، عاشت بين مظاهر العظمة والترف، وشهدت جبروت الملوك وقسوة السلطان، برغم ما أحاط بها من بطش واستبداد، أضاء الإيمان قلبها وأنار بصيرتها. رفضت حياة الضلال التي اعتادت عليها، وأدركت الحق فتوجهت إلى ربها تدعوه أن ينقذها من الظلم الذي تعيش فيه، فجعلها الله مثالًا للذين آمنوا، كما ورد في قوله تعالى: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ”.
من هي آسية بنت مزاحم
وقد أشار النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى مكانتها حين قال: “أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران”.
جسدت آسية، زوجة فرعون، نموذج الإيمان الراسخ، فلم تخضع لبطش فرعون ولم تَهتز أمام تهديداته، بل صمدت أمام كل الضغوط. آمنت بالله إيمانًا عميقًا، واختارت طريق الحق، متخلية عن حياة القصور والترف من أجل بيت في الجنة، مُعلنةً بذلك صدق إيمانها وثقتها بربها.
تجلت إنسانية السيدة آسية في قصة النبي موسى عليه السلام. حينما أوحى الله إلى أمه أن تلقيه في البحر، ليحمله الموج إلى قصر فرعون، رأت آسية الطفل فألقى الله في قلبها حبه. وعندما أراد فرعون قتله، طلبت منه أن يبقيه حيًا، ليكون عوضًا عن حرمانها من الولد. هكذا شاء الله أن ينشأ موسى في بيت فرعون، كما ذكر القرآن الكريم: **”فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا… وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا”**.
كانت آسية تتمتع بفطرة سليمة وقلب رحيم، فلم تُصدق جنون فرعون بادعائه الألوهية. وعندما عاد موسى من مدين ودعا إلى عبادة الله، كانت آسية من أوائل المؤمنين به. أثار إيمانها غضب فرعون، فأمر بتعذيبها أشد العذاب. ربطها الجنود بين أربعة أوتاد وأمطروها بالسياط، ثم أمر بوضع صخرة عظيمة على صدرها. لكنها، في خضم هذا العذاب، كانت تدعو ربها قائلة: “رب ابنِ لي عندك بيتًا في الجنة”.
كما استجاب الله دعاءها، ورفع روحها إلى الجنة، حيث الملائكة تظلها بأجنحتها. بهذا الإيمان العميق والصبر العظيم، استحقت أن تكون من نساء الجنة الخالدات.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةَ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ”. نموذج آسية هو أعظم دليل على أن الإيمان الحق يستطيع أن يتحدى الظلم والطغيان، ويخلّد ذكرى من صدقوا مع ربهم.