د. محمد السعيد إدريس يكتب:خيارات صعبة أمام الرئيس الفرنسي
السؤال الذي يشغل المراقبين، وربما معظم الفرنسيين بعدما فجّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «قنبلته المدوية» بإعلانه يوم الاثنين (12 مايو/ أيار الجاري) قراره بحلّ الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) رداً على «صفعة كانت متوقعة» عندما جاءت نتيجة انتخابات «البرلمان الأوروبي» التي أجريت يوم الأحد (9 مايو/ أيار الجاري) على غير ما كان يتمناه، حيث حقق اليمين المتطرف تفوقاً كبيراً على مجمل الأحزاب السياسية الأخرى خاصة في فرنسا وألمانيا هو: كيف يفكر الرئيس الفرنسي في إدارة الحكم؟ هل يضع خيارات الشعب الفرنسي كمحدد رئيسي لسياساته، أم أنه مقتنع بأن من واجب الشعب أن يخضع لخياراته ويكيف نفسه مع هذه الخيارات؟
خلال عام مضى، على الأقل، لم يُعِر ماكرون أهمية واجبة للتغيرات التي أخذت تحدث في الداخل الفرنسي بالنسبة للحرب الأوكرانية. فتداعيات هذه الحرب أخذت تفرض نفسها سلبياً على معظم المجتمعات الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا خاصة على مستوى ارتفاع تكاليف المعيشة وازدياد معدلات التضخم بسبب عبء الدعم الذي تقدمه هذه المجتمعات لأوكرانيا في حربها مع روسيا. وعلى العكس من سياسته السابقة المنضبطة والأميل إلى الوساطة مع روسيا والبحث عن حل سياسي تحوّل موقف ماكرون إلى إظهار التشدد «المفرط» ضد روسيا، وحرص على أن يظهر نفسه باعتباره «الزعيم الغربي» الأكثر اندفاعاً في توفير الدعم العسكري لأوكرانيا، خاصة عندما انحاز بقوة إلى خيار السماح للقوات الأوكرانية باستخدام الأسلحة الغربية لضرب «العمق الروسي» وعدم الاكتفاء بضرب القوات الروسية على الأراضي الأوكرانية، والحيلولة دون تمكين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تحقيق انتصار حتى لو استدعى الأمر الدفع بقوات تابعة لحلف شمال الأطلسي للقتال داخل أوكرانيا دعماً للقوات الأوكرانية.
هذا التوجّه كان يثير غضب الشارع الفرنسي الذي لم يُعِره ماكرون الاهتمام والاحترام الكافي، ولم يتردد في استخدام «القبضة الأمنية القوية» ضد أي تظاهرات شعبية أو نقابية رافضة للسياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية، وكان أن دفع الثمن غالياً عندما قرر الشعب الفرنسي القصاص منه يوم الأحد (9 مايو/ أيار الجاري) عندما أجريت انتخابات «البرلمان الأوروبي» حيث صوّت الغالبية من الشعب الفرنسي لصالح القوى السياسية الرافضة للحرب الأوكرانية، والرافضة للسياسات الوحدوية الأوروبية والأكثر يمينية وقومية وعلى رأسها حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبان ويترأسه جوردون بارديلا الذي يبلغ من العمر 28 عاماً فقط، حيث حصل على 31,5% من الأصوات ما سيمكنه من إرسال 30 نائباً إلى البرلمان الأوروبي، وفي المقابل لم تحصل لائحة «حزب النهضة» الذي يتزعمه ماكرون والحزبين المتحالفين معه إلا على 14,6% من الأصوات ما يتيح له إرسال 13 نائباً إلى البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ.
جاءت هذه النتائج بمثابة «الصدمة» للرئيس ماكرون، وهنا الكارثة، إذ كان عليه أن يتوقع مثل هذه النتيجة ولا يصدم بها لأنها تعكس التوجهات الحقيقية للرأي العام الذي أضحى مناوئاً لسياساته وحكومته، خاصة أن هذه النتائج جاءت قريبة من نتائج آخر انتخابات برلمانية فرنسية أجريت عام 2022 وخسرها الائتلاف الوسطى الداعم للرئيس.
لم يتحمل الرئيس ماكرون «الصدمة» وفي اليوم التالي مباشرة لإعلان تلك النتائج أي قرر أن يرد على «الصدمة» ب «صدمة مماثلة» عندما قرر حل الجمعية الوطنية (البرلمان) وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة تجري جولتها الأولى يوم 30 يونيو/ حزيران الجاري، وتجري الجولة الثانية (جولة الإعادة) يوم 7 يوليو/ تموز المقبل.
في تفسيره لهذا القرار، أو بالأحرى تبريره قال الرئيس ماكرون إنه (أي القرار) كان «ثقيلاً» لكنه لا يستطيع أن يستسلم لحقيقة أن «أحزاب اليمين المتطرف.. تتقدم في كل مكان في القارة (الأوروبية)»، كما برره أيضاً بقوله إنه «يثق في الناخبين الفرنسيين، وفي قدرة الشعب الفرنسي على اتخاذ الخيار الأفضل لنفسه وللأجيال القادمة».
معظم الفرنسيين يعتبرون أن ماكرون «أقحم نفسه في مقامرة كبرى»، وأن نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة المقبلة قد تختلف كثيراً عن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، بل ربما تتفوق فيها أحزاب اليمين وبالتحديد حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، وهذا ما تؤكده نتائج أحدث استطلاعات للرأي التي توقعت أن يأتي ترتيب «التجمع الوطني» في المقدمة، بأن يحصل على ما بين 220 – 270 مقعداً (من مجموع 577) يليه التحالف اليساري«الجبهة الشعبية» التي تضم أحزاب «فرنسا الأبية» و«الاشتراكي» و«الشيوعي» و«الخضر» وسيحصل على ما بين 150- 190 مقعداً، ثم حزب «النهضة» الرئاسي وحلفاؤه على ما بين 50 – 130 مقعداً، و«الجمهوريون» على ما بين 30 – 40 مقعداً، ثم تتوزع بقية المقاعد على القوى السياسية الأخرى.
هذا معناه أن ماكرون سيكون أمام خيارين أحلاهما شديد المرارة، الأول أن يستقيل من الرئاسة وتتم الدعوة إلى انتخابات رئاسية جديدة، أو أن يقبل الاستمرار حتى انتهاء ولايته الحالية عام 2027 وأن يعيش خلالها مع حكومة معارضة.