عبادة لا تنضب: معاذة العدوية و رحلة العبادة والتضحية في سبيل الله
في عالمنا اليوم، يُعتبر تمثيل القيم الإنسانية والتصرف بالأخلاق الحسنة تحديًا يوميًا. ومن أجل بناء مجتمع يتسم بالتقوى والاستقامة، فإن السير في طريق الصالحات يعتبر أساسيًا. إنَّه عملية تربوية تسهم في تشكيل الشخصية وبناء السلوك الإيجابي. بترسيخ القيم والمبادئ النبيلة.
في عصر التابعين، برزت العديد من قصص النساء الفاضلات اللواتي تركن بصماتهن البارزة في تاريخ الأمة الإسلامية. وقد قام المؤلف والمترجم السوري أحمد خليل جمعة بجهد كبير لتوثيق هذه القصص في كتابه “نساء في عصر التابعين” الصادر عن دار نشر ابن كثير. يركز هذا الكتاب على دور النساء في تلك الفترة الزمنية. وعلى الأحداث التي ترتبط بالدعوة الإسلامية وبحياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
معاذة بنت عبدالله العدوية، شخصية بارزة في عالم التابعيات، ومن ذوات الفضل والمكانة في تاريخ الإسلام. ولدت ونشأت قريبة من ينابيع الصحابة الكرام. حيث استمدت علمها وتقواها من معين علمهم الصافي الذي نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تخرجت معاذة من مدرسة كبار الصحابة والتابعين، مثل أم المؤمنين عائشة وعلي بن أبي طالب وهشام بن عامر، حيث شاهدتهم واستفادت من علمهم، ونقلت عنهم العديد من الأحاديث والمعارف. وكانت تحظى بتقدير كبير من رؤوس العلماء والزهاد في عصرها، مثل أبو قلابة الجرمي وإسحاق بن سويد وأيوب السختياني وغيرهم.
تتميز معاذة بعلمها الواسع وتفقهها في الدين، وكانت مولعة بتلاوة القرآن الكريم والاعتناء بالعبادات والنسك. وكانت حكيمة في كلامها. حيث كانت تنطلق الحكمة والعلم من لسانها وقلبها. مما جعلها محل احترام وتقدير الآخرين.
وكانت معاذة تحرص على قراءة قرآن الفجر والمحافظة على الذكر والعبادة، ولم تلهها أي مشاغل حتى في يوم زفافها، حيث بقيت ملتزمة بعبادتها وقراءة القرآن.
زواج معاذة العدوية
زوج معاذة العدوية، هو صلة بن أشيم، المعروف بـ”أبي الصهباء العدوي البصري”، رجل زاهد وعابد، يتمتع بسمعة مرموقة في العلم والفقه. وكان كل منهما بحرًا في العلم والزهد. وتميزا بورعهما وتقواهما. وكان زواجهما قصة ملهمة، تنثر السعادة والطمأنينة في قلوب الناس، وتعكس طيب الحديث الذي استمر يروى بينهم في ذلك العصر، ثم ينتقل للأجيال اللاحقة ليبقى حيةً في الذاكرة.
في ليلة زفاف معاذة العدوية، أهديت إليها صلة بن أشيم، حيث قام بترتيب كل شيء بعناية وحب، وأدخلها البيت المزين بأجمل الثياب وأطيب الطيبات. وعندما وصلوا إلى المنزل وبدأوا صلاتهم، ظلوا مغمورين في العبادة حتى أطل الفجر وتنفس نسيم الصباح، دون أن يشعروا بمرور الزمن في هذه الليلة المباركة.
وفي الصباح، أتى ابن عم صلة ليتأكد من أحواله، وفاجأه بما وجده، فوجد أن صلة لم يتوقف عن الصلاة حتى أشرق الفجر، فتعجب وسأله عمه عن سبب تركه لزوجته في هذه الليلة، فأجابه صلة بحكمة قائلاً: “أدخلتني بيوتاً مذكرة بالنار، ثم دخلتني بيوتاً مذكرة بالجنة، فظلت فكرتي فيهما حتى أصبحت.”
بناءً على نهج العبادة والتقوى، عاشت معاذة وزوجها حياتهما، سعينا لمرضاة الله وتقربه منه. وقد وصفت معاذة زوجها بأنه كان يصلي حتى لا يمكنه الوصول إلى فراشه إلا بالزحف، وأنه لا يترك الصلاة حتى يقرأ فيها.
وقد وثقت معاذة بحكمتها وبلاغتها في أقوالها، حيث حذرت الناس من الغرور بالدنيا وحثتهم على التوجه إلى الله وحده. وتأملت في جمال اللقاء مع الله في الآخرة، وتحذرت من أن الدنيا لا تبقي على شيء ولا تمنح السعادة الحقيقية.
بهذه الطريقة، برزت معاذة وزوجها كقدوة للعبادة والتقوى. وكانت قصتهما تلهم الناس للسعي نحو الخير والتقوى في الدنيا والآخرة.
عبادة وصلاتها:
معاذة العدوية كانت مثالاً بارزاً للتفاني في العبادة والصلاة. لم تمر ساعة إلا وهي مشغولة بذكر الله والصلاة، فكانت تقضي ساعات الليل مستمتعة بالصلاة والذكر والتسبيح. كانت تقوم بصلاة 600 ركعة في اليوم والليلة، وتقرأ جزءاً من القرآن الكريم كل ليلة. وعند بزوغ الفجر، كانت تعتبرها اللحظة التي يمكن أن تموت فيها، فلا تغفو، وعندما يحل الليل، تعتبرها اللحظة التي ستموت فيها، فلا تنام حتى تصبح. وإذا غلبها النعاس، كانت تقوم وتتحرك في المنزل لتنبيه نفسها، وتظل تخشى الموت في حالة الغفلة والنوم.
وفي الشتاء، عندما تتأثر الناس بالبرد، كانت معاذة تلجأ إلى لبس الثياب الرقيقة لتجنب النوم، ولكنها لم تتوان عن العبادة والمناجاة. وكان زوجها يشاركها في الاجتهاد في العبادة. فكان يمتنع عن النوم ليلاً ويصوم نهاراً، مما جعلهما مثالاً للتفاني والاجتهاد في طلب الله ورضاه.
صبرها :
في سنة 62 هجرية، استشهد زوج معاذة وابنها في قتال الترك في سجستان. ولكن على الرغم من هذا المصاب الجلل، فإن معاذة لم تظهر أي علامة من الحزن أو اليأس. بل بقيت صابرة ومؤمنة بقضاء الله وقدره. وعندما جاءت النساء لتعزيها. رحبت بهن وقالت لهن: “مرحباً بكن، إذا كنتن جئتن للهناء، وإذا كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.”
وقد أثر هذا الصبر والثقة بالله في قلوب النساء اللاتي تحدثن عنها بإعجاب. وكانت هذه التجربة تعزز مكانتها ورفعتها أمام الناس.
وفاتها
عاشت معاذة بعد وفاة زوجها لأكثر من عشرين سنة. ولم يمر يوم إلا وكانت تستعد للقاء الله. وعندما حانت ساعة الموت، بكت معاذة، لكنها بعد ذلك ابتسمت. وعندما سئلت عن سبب البكاء والضحك. أجابت: “بكيت من خوفي من فقدان فرصة الصيام والصلاة والذكر. وضحكت عندما رأيت زوجي وابني في جنة الدار، فلم أكن قد رأيتهما بمظهر سعيد كهذا من قبل.”
هكذا عاشت معاذة العدوية حياة مليئة بالتفاني في العبادة والصلاة، وكانت قصتها ووفاتها مصدر إلهام وتأمل للناس في طلب الله ورضاه.