كتابنا

د. محمد السعيد إدريس يكتب :طوفان الأقصى .. محاولة أولية للفهم

د. محمد السعيد إدريس يكتب :طوفان الأقصى .. محاولة أولية للفهم

ربما يكون من أبرز النتائج التي سوف تترتب على الحدث الجلل الذى صدم الجميع في العالم يوم السابع من أكتوبر 2023 ، بانطلاق “طوفان الأقصى” ليدمر دفاعات كيان الاحتلال الإسرائيلى، ويسقط معها نظرياته الأمنية وأساطيره المفاهيمية التي حرص هذا الكيان دائماً على الترويج لها، خاصة أسطورة “إسرائيل القوة الإقليمية العظمى التي لا تقهر”، هى تلك النتائج التي ستفرض نفسها بعد أن ينقشع غبار الحرب الانتقامية المجنونة التى يشنها كيان الاحتلال بمشاركة ودعم غير مسبوق من الولايات المتحدة الأمريكية ومعها القوى الأوروبية الحليفة (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) على قطاع غزة منذ ذلك اليوم المجيد.
البعض يميل إلى تسمية “طوفان الأقصى” وما أحدثه من ارتجاجات وتصدعات في كيان الاحتلال الإسرائيلى، وما سيحدثه في منظومة العلاقات الإقليمية الشرق أوسطية بـ “الصدمة”، في حين يميل آخرون إلى تسميته بـ “انكشاف الحقائق الكامنة في مكونات الصراع العربي- الإسرائيلى ومحورية الدور الإسرائيلي وقبله الدور الأمريكي في هذه المكونات”، وانقشاع الغبار المتراكم على مدى عقود مضت عن الجوهر الوضاء لحركة المقاومة الفلسطينية وعلاقتها بالأرض “التى تعرف أصحابها”، ضمن معادلة “الوطن أو الموت” تلك الكلمتان اللتان خلدهما التاريخ، واختتم بهما القائد “العالمي” ارنستو تشي جيفارا خطابه الذى ألقاه في الأمم المتحدة في نيويورك (11 ديسمبر 1964) ليؤكد حق الشعوب في تقرير مصيرها.
كتائب القسام التى نفذت أسطورة “طوفان الأقصى”، وعت المعنى وطورت المفهوم وفقاً لمعتقداتها إلى ثنائية “النصر أو الشهادة” وكلاهما بالمفهوم الإيماني انتصار وقهر لكل مستحيل على نحو ما حدث يوم السابع من أكتوبر 2023 .
في هذا اليوم المجيد دارت معركة “سيخلدها التاريخ” بين مجموعات فلسطينية مسلحة من “كتائب الشهيد عز الدين القسام” التى تنتمي إلى “حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) ، لم يتجاوز عددها الألف مقاتل، وبين فرقة عسكرية تنتمي إلى “قوة إقليمية” تزعم أنها “عظمى”. هاجم المقاتلون الفلسطينيون ، بعد أن تجاوزوا بنجاح، “الحائط العازل” الذى تكلف مليارين من الدولارات ليحمي مستعمرات ما يسمى بـ “غلاف غزة” الإسرائيلي من تغلغل عناصر المقاومة، إلى داخل كيان الاحتلال، واشتبكوا مع الفرقة 643 التى تتولى مهمة حصار غزة، والتي يبلغ عدد عناصرها نحو 20 ألف جندي وضابط ، والمجهزة مواقعها بكل تقانيات المراقبة والاستطلاع والإنذار المبكر والتجسس والتنصت ، فاستطاعت هذه المجموعات من المقاومة الوصول إلى كل مواقع هذه الفرقة والاشتباك مع العناصر الموجودة فيها وإسقاط معظمهم بين قتيل وجريح وأسير، ولتعلن إسقاط الأسطورة، التي تفجر بعدها بركان الانتقام الإسرائيلي – الأمركي في محاولة مستميتة للحيلولة دون هزيمة إسرائيل، على نحو ما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن الولايات المتحدة “لن تسمح بهزيمة إسرائيل”، ولتجاوز ما اعتبره بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي “أسوأ جريمة قتل جماعي لليهود منذ الهولوكوست”.
هل يمكن لـ “حرب الإبادة الجماعية” ونهج سياسة “الأرض المحروقة” والجرائم “ضد الإنسانية” التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على أهالي غزة الذين تجاوز شهداؤهم الـ 18 ألف شهيد ناهيك عن عشرات الآلاف من المفقودين تحت ركام المباني المهدمة، وأكثر من 75 ألف من الجرحى والمصابين حتى تاريخ (6/12/2023) أن تحقق النصر لإسرائيل وفق الأهداف التي تعجلوا في إعلانها؟
الحكومة الإسرائيلية، في تصريح رسمي حددت 3 أهداف هى: استعادة المخطوفين (الأسرى) عبر الحملة العسكرية وليس عبر التفاوض والقضاء نهائياً على حركة “حماس” ، وضمان أن قطاع غزة لن يشكل تهديداً على أمن إسرائيل في المستقبل، وزاد “جلعاد أردان” مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة هدفا رابعاً هو “تسليم جميع المشاركين في هجوم 7 أكتوبر”.
أصدقاء إسرائيل في “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” خاصة الثلاثى: روبرت ستالوف المدير التنفيذي بالمعهد ورجل المهام الصعبة في الدبلوماسية الأمريكية، ودينيس روس المستشار والزميل في المعهد المستشار السابق لشئون الشرق الأوسط في إدارة الرئيس باراك أوباما، وديفيد ماكوفسكي مدير مشروع عملية السلام في الشرق الأوسط بالمعهد الذين أعدوا دراسة استباقية عن معالم “اليوم التالى” لانتهاء الحرب في غزة، سطروا في هذه الدراسة ثمة قول مأثور مفاده أن “أي خطة عسكرية لا تصمد بعد الاتصال بالعدو”، وهذا ما حدث بالنسبة لإسرائيل التي جلست للتفاوض مع حركة “حماس” بشكل غير مباشر في الدوحة عبر الوساطة القطرية والمصرية والمتابعة الأمريكية عبر وفد عال المستوى ترأسه برنياع رئيس الموساد نفسه، وأسفر هذا التفاوض عن التوصل إلى هدنة أولى أربعة أيام (ابتداء من 24 نوفمبر 2023) وثلاث هدن أخرى انتهت كلها يوم الخميس (30 نوفمبر 2023)، وجرى عبرها تبادل أربع جولات من تبادل الأسرى ، قبل أن تستأنف إسرائيل الحرب بأعنف مما كانت بعد إصرار حركة “حماس” على “تبييض السجون الإسرائيلية من كل الأسرى الفلسطينيين مقابل ما لديها من أسرى أو مخطوفين وفق قاعدة “الكل مقابل الكل”.
هذا يعني ان النصر الإسرائيلي أضحى “مراوغاً” فهم اتصلوا فعلاً بالمقاومة (العدو) وهذا معناه تفريغ العملية العسكرية الإسرائيلية من مضمونها، وهم حصلوا على عدد من الأسرى أو المخطوفين “عبر التفاوض” وليس عبر “القهر العسكري”، وتكشَّف للعيان أن حركة “حماس” هى التي بيدها جدول أعمال ما سيحصل وليس إسرائيل. ضمن هذه الحقائق والاستنتاجات كيف سيكون المستقبل؟.
السؤال أجاب عليه بدقة “ناحوم برنياع” أبرز محللي صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية عندما كتب أن “صباح السابع من أكتوبر (يوم انطلاق طوفان الأقصى) كان الأصعب والأشد مرارة منذ إنشاء إسرائيل” ، مشيراً إلى أن هذا اليوم “ليس له تاريخ انتهاء”، بمعنى أن آثاره ستبقى ممتدة، وهنا وبالتحديد يقول الكاتب “هذا هو الفارق، ربما بين الحادثة والكارثة.. في الحادثة يكون من الطبيعى الطموح للعودة إلى وضع الواقع الذى كان قبلها ، أما الكارثة ، فيجب إعادة التفكير في المسار”. هكذا ستتحدد معالم مستقبل كيان الاحتلال .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى