أحمد رفعت يوسف يكتب:من دمشق إلى بكين ..العالم يتغير بسرعة..
عندما شاهدنا الحركة العربية باتجاه دمشق، على وقع الزلزال الذي ضربها مع تركيا 6 شباط الماضي، كان واضحاً أنها لم تكن لغايات إنسانية فقط، وإنما وراءها محاولات لرسم وتحديد الأدوار والمواقع في خارطة التوازنات الإقليمية والدولية التي تتغير بسرعة، وترسم على الساخن في المنطقة والعالم، ليأتي المشهد المفاجئ من العاصمة الصينية بكين، بالإعلان عن اتفاق على عودة العلاقات بين إيران والسعودية، على أسس من الاعتراف المتبادل بموقف ومكانة كل من البلدين، وعلى قاعدة التعاون وليس التنافر والتحارب ليؤكد هذه الحقيقة، وهو المشهد والمسار الذي سيستكمل في العاصمة الروسية موسكو مع لقاء نواب وزراء الخارجية في روسيا وسوريا وتركيا وإيران كبداية لانطلاق المسار السياسي الرباعي.
ففي المشهد السوري، يتم التأكيد على موقع ومكانة سورية (بلاد الشام) في الجغرافيا السياسية العالمية، كمؤشر لصعود وهبوط الامبراطوريات والدول العظمى عبر التاريخ، وفي المشهد الصيني تأكيد على الاتجاه التي تأخذه بوصلة الانزياحات في موازين القوى والقوة الإقليمية والدولية، ومواقع القيادة للسياسات والاقتصاديات العالمية، التي تنتقل من ضفتي الأطلسي إلى الحضارات المشرقية الناهضة الصينية الروسية الإيرانية ومعها الهندية، وعودة سورية (بلاد الشام) لأخذ دورها الروحي في جسد الحضارة البشرية.
ففي المشهد الدمشقي كان واضحاً أن ما يجري يؤكد أكثر من حقيقة أهمها:
** “بدء” عودة سورية لتأخذ دورها كلاعب إقليمي.
** إقرار أمريكي وأوروبي وعربي بأن مرحلة شعارات إسقاط النظام أو تغييره أو تغيير سلوكه قد سقطت بشكل نهائي وكامل.
** تأكد الدول العربية والقوى الإقليمية والدولية أنه لا يمكن استكمال أي دور في المنطقة بدون المرور عبر دمشق.
** ما جرى لم يكن لغايات إنسانية، ولا نخوة عربية لم تعد موجودة إلا في الكتب والقصائد، وإنما لاستكشاف موقف سورية، وأين وصلت وهي تحت تأثير الضغوط والحصار وأخيراً الزلزال، وإمكانية أخذها من جديد إلى ما يطرح عليها من أفكار ومشاريع قديمة بأساليب جديدة.
أما الاتفاق الإيراني السعودي، فلا يمكن النظر إليه على أنه مجرد اتفاق بين بلدين كانا يتحاربان بشكل غير مباشر، ويقتربان من التحارب المباشر في أي لحظة، وإنما هو من نوع الأحداث التي تثير حولها تأثيرات كبيرة أكثر من الحدث نفسه، وبشكل يشبه بؤرة زلزال تنتشر تأثيراتها وصداها على مروحة واسعة من الجغرافيا السياسية الإقليمية والدولية، وتليها الكثير من الهزات الارتدادية بمختلف درجات القوة، وأول هذه الارتدادات التي تقرب قوتها من الحدث نفسه، هو عقد اللقاء في بكين، وبرعاية الرئيس الصيني “شي جين بينغ” ونجاح الدبلوماسية الصينية في إنجاز الاتفاق، لأنه يؤشر إلى موقع بكين الجديد، ولعب صيني في قلب المجال الحيوي للولايات المتحدة الأمريكية، حيث العلاقات مع السعودية (وحصار إيران) هي أحد ركائز السياسة الأمريكية في المنطقة والعالم.
هذ يؤكد أن غاية الحركة باتجاه دمشق، والتي تأكدت في بكين، تقف خلفها طموحات وأهداف للعب أدوار، وحجز مواقع، وتحديد الحجوم والنفوذ، في خريطة التوازنات وموازين القوى والقوة التي تتشكل في المنطقة والعالم، حيث تجري تحولات كبرى وعميقة، وعلى إيقاع سريع، نتجت عن فشل بالجملة للمشارع الأمريكية الغربية وبإدارتها الصهيونية وأدواتها في المنطقة، وفي مقدمتها فشل مشروع الشرق الأوسط الجديد في تحقيق أهدافه، وفشل مشروع إسقاط سورية، وفشل المشروع الأخو.ا.ني، وفشل مشروعه العثمانية الجديدة، والفشل السعودي الإماراتي في اليمن، وفشل حصار إيران ومحاولة استهدافها من الداخل، والموت السريري للاتفاق النووي الإيراني، وفشل محاصرة واستهداف روسيا والصين.
وبالمقابل التصاعد المتسارع والمؤثر، لدول وقوى وأطراف حلف المقا.و.مة من طهران إلى دمشق عبر بغداد وبيروت ومرورا بصنعاء، وانتهاء في فلس.ط.ين المحتلة، حيث الهدف والمقصد، وعالميا تقدم الصين في سلم قيادة العالم، وعودة روسيا قوة عظمى وقطب عالمي..
يلاحظ أن كل هذه التحولات المثيرة في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة وامتداداتها العالمية، وصولاً إلى أوكرانيا ثم بكين، بدأت انعطافتها الحادة والتاريخية من الميدان السوري، مع نجاح سورية – بمساعدة حلفائها وأصدقائها – في وقف تمدد مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي كان يستهدف تجديد بنية النظام الرأسمالي العالمي المأزوم، عبر السيطرة المطلقة على منابع وخطوط نقل النفط والغاز الرئيسية في العالم، في الخليج ووسط آسيا، والأهم ما هو موجود في شرق المتوسط، وإسقاط إيران، ومحاصرة روسيا، وفرملة الصين بشكل كامل، لكن قد يكون حجم الضغوط التي تمارس على سورية والتي أوصلتها إلى مرحلة صعبة، أوهمت بعض الأطراف أنها قد تكون جاهزة للموافقة على ما يقدم لها من طروحات ومشاريع وإغراءات لتغيير موقفها، وإعادة تجديد مشاريع الهيمنة والسيطرة على المنطقة والعالم من جديد.
هذا يؤكد، أن باب التحولات ومفتاح المنطقة موجود في دمشق، وليس في أي مكان آخر، مما دفع كل الأطراف الإقليمية والدولية الباحثة عن مكان أو دور في المنطقة لطرق أبواب دمشق.
القيادة السورية التي تدرك قوة الأوراق التي بيدها، والتي تكتسبها من موقعها الجيوسياسي، ومن فشل محاولات إسقاطها، لا نعتقد أنها بوارد القبول بالعروض الأمريكية التي رفضتها وهي على شفير الهاوية، وهي تدرك أن ما يقدم لها من إغراءات ستدفع ثمنها من موقعها وموقفها، وسيفقدها هويتها الوطنية والقومية، وهو الخط الأحمر الذي لا يمكن القبول به في سورية.
أما الاتفاق السعودي الإيراني فهو بالتأكيد سيحرك الكثير من المياه الراكدة في المنطقة، لكنه ليس الوحيد الذي سيتحكم بمسارتها، لأن هذا الاتفاق سيشعل أضواء حمراء في تل أبيب وواشنطن، وكل عواصم الدول المعنية بالتطورات الإقليمية والدولية الجارية، مما سيجعل المنطقة بعد هذه التطورات تسير باتجاهين، الأول تبريد نقاط الاشتباك التي كانت بين إيران والسعودية، وخاصة في اليمن ولبنان وسورية، والثاني زيادة السخونة في نقاط الاشتباك مع الكيا.ن الص.هيو.ني، خاصة وأن هذا الكيان يتحول بسرعة ليصبح كعب آخيل المنظومة الأمريكية الغربية الرأسمالية، وهو يعيش أزمات وجودية حقيقية، تترافق مع ميل المجتمع الص.هيو.ني إلى مزيد من التطرف، والتي وجدت ترجمة لها في حكومة نتنياهو – بن غفير، ومن جهة ثانية تصاعد قوة ومكانة دول وأطراف حلف المقا.و.مة وخاصة في الشارع الفل.سط.يني.
أهم ما يجب انتظاره وترقبه هو الموقف الأمريكي، لأن ما يجري هو تهديد حقيقي لمكانة الولايات المتحدة كقطب وحيد يقود العالم حتى الآن، وكذلك الموقف البريطاني، باعتبار لتدن تشكل المطبخ السياسي ومركز دماغ العالم الغربي الرأسمالي، إضافة إلى الموقف الإسرائيلي، وهو ما قد يؤدي إلى تقدم أفكار الرؤوس الحامية فيها للتعامل مع هذه الأحداث وتداعياتها، لأن القبول بهذه التحولات يعني الإقرار بانتهاء العصر الأمريكي مع تداعي كامل منظومته.
أما الحدث الذي سيكون أكثر إثارة وتأثيراً، والذي سيكون المؤشر إلى تغير استراتيجي حقيقي، سيكون عندما تتمكن سورية من ترميم واستكمال بنيتها العسكرية، التي تعرضت لمخاطر حقيقية مع الحرب العدوانية الشرسة التي شنت عليها، وبما يمكنها من الرد بقوة على الاعتداءات المتكررة التي تقوم بها إسرائيل، وعلى التواجد الأمريكي غير الشرعي فيها وإخراجه منها، مع عدم إغفال إمكانية انزلاق المنطقة نحو مواجهة غير محسوبة، وفي توقيت لم يختره أحد من أفرقاء الصراع، كما حدث في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، وهو ما أكده السيد حس.ن ن.ص.ر الله في كلمته الأخيرة أمام المؤتمر الأول لرابطة المحللين السياسيين، عندما قال بأن “المنطقة ذاهبة إلى الحرب الكبرى عاجلاً أم آجلاً .. ونحن نستعد لها”، ونعتقد أن هذه المعركة القادمة (بدون أدنى شك) هي التي ستغير المشهد في المنطقة والعالم بشكل كامل، وستكون تأريخاً لنهاية نظام القطب الأمريكي الواحد الذي يتداعى والبداية الحقيقية للنظام الدولي الجديد متعدد الأقطاب.