المزيد

د. محمد السعيد إدريس يكتب:صراع القيم وحوار الحضارات

د. محمد السعيد إدريس يكتب:صراع القيم وحوار الحضارات

على الرغم من أن تاريخ العلاقة بين عالم الغرب وحضارته “الغربية” وعالم الشرق بحضاراته القديمة التاريخية العريقة (الحضارة المصرية الفرعونية والحضارة الصينية والحضارة الهندية ثم الحضارة العربية – الإسلامية) كانت بالأساس “علاقة صراع” سواء فى المرحلة الاستعمارية الأولى (البريطانية – الفرنسية) أو فى المرحلة الاستعمارية الثانية أو الحديثة، أى مرحلة ما بعد الاستعمار القديم بقيادتها الأمريكية فإن هذه العلاقة الصراعية استمرت متجاوزة كل ما تضمنه القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة من قواعد تؤكد على ضرورة إرساء قواعد علاقات التعاون والسلام بين الأمم، والاحترام المتبادل بينها، وظلت محكومة باختلال توازن القوة بين الطرفين لصالح الأمم الغربية.
وإذا كانت المرحلة الأولى من هذه العلاقات ، أى المرحلة الاستعمارية، قد شهدت نهباً ممنهجاً لثروات أمم الشرق فى آسيا وأفريقيا إلى جانب دول القارة الأمريكية اللاتينية لصالح أمم الغرب، وكان أسوأ أنواع هذا النهب الاستعمارى هو نهب الثروات البشرية، واستجلاب أبناء أمم الشرق خاصة من القارة الأفريقية وتسخيرهم كعبيد يخدمون السادة فى أوروبا والولايات المتحدة، فإن المرحلة الثانية الاستعمارية بقيادتها الأمريكية تشهد ما هو أشد سوءاً وهو “الصراع القيمى” الذى يقوم على أساس فرض قيم الغرب وأفكاره ومعتقداته على أمم الشرق دون احترام لقيمها وأديانها وحضاراتها، سعياً إلى “مسخ” عقول هذه الأمم وتحويلها إلى “كيانات تابعة منعدمة الإرادة”، لذلك كان منطقياً، من المنظور الغربى، أن تكون “منهاجية صراع الحضارات” بما تتضمنه من استعلاء واستكبار وعنصرية غربية هى الاستخلاص الطبيعى لهذا النوع من العلاقات بين الغرب والشرق ، وأن تكون “السخرية” و”التجاهل” و”الإزدراء” هى رد الفعل الغربى على دعوة “الحوار بين الحضارات” التى حرصت دول الشرق إلى الدعوة إليها وخاصة الدول العربية والإسلامية.
الصراع القيمى الذى نعنيه ظهر مبكراً فى الأدبيات السياسية الغربية خاصة فى مجال ما عرف بـ “التحديث” من منظوره الغربى، الذى كان من أبرز من كتبوا فيه ونظروا له صموئيل هنتنجتون عالم السياسة الأمريكى الذى كان له السبق فيما بعد فى إطلاق دعوة “صراع الحضارات” فى أبرز مؤلفاته التى حملت هذا الاسم . فقد دعا هنتنجتون فى واحد من أبرز مؤلفاته الذى حمل اسم التحديث Modernization إلى أن النهوض بالمجتمعات المتخلفة فى دول عالم الجنوب أو “العالم الثالث” يكون باتباعها السياق التاريخى لتطور وتقدم المجتمعات الغربية المتحضرة، عبر “سياق تطورى” من خلال عملية “تقليد” لمسار ذلك السياق أى عبر “عملية تطورية” ، لتستبعد ونهائياً مسار “الثورات” كوسيلة للتغيير الجذرى الشامل ، مؤكداً على أن التخلف الذى تعيشه مجتمعات دول العالم الثالث يرجع إلى أن أسباب التخلف كامنة فيها، وهو بذلك تجاهل تماماً المسئولية الغربية عن هذا التخلف وبالذات نهب ثروات دول العالم الثالث عبر العلاقة الاستعمارية الاستغلالية، وهو أيضاً أراد أن يفرض القيم والأفكار الغريبة على مجتمعات دول العالم الثالث على حساب منظوماتها الفكرية وخصوصياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية. فى محاولة للحيلولة دون حدوث تقارب بين الاتحاد السوفيتى ومنظومة الدول الاشتراكية مع دول العالم الثالث، كى تبقى هذه الدول تابعة إلى ما لا نهاية للغرب، أى “تكريس التبعية”.
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتى وانهيار “حلف وارسو” الاشتراكى، انطلق الغرب بقيادته الأمريكية نحو اتباع أسوأ هجمة فكرية وقيمية على العالم كله وليس دول العالم الثالث، حيث تعرضت دول شرق ووسط أوروبا الأعضاء السابقين فى حلف وارسو إلى ما أسموه بـ “الثورات الملونة” وهى ثورات حدثت بتدبير وتخطيط أمريكى لإسقاط الحكم الاشتراكى فى هذه الدول، واحتوائها بنظم رأسمالية بديلة فى منظومة الدول الغربية حيث أصبحت كل هذه الدول تقريباً أعضاء فى الاتحاد الأوروبى ثم فى حلف شمال الأطلسى ، وجاءت محاولة احتواء روسيا هى الأخرى من الداخل بذات الآليات من دعاوى “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” التى جرى عبرها إسقاط نظم الحكم الاشتراكية فى شرق ووسط أوروبا، واختفى تماماً مسمى أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية وانضوى الجميع نحو اسم “أوروبا” فقط.
الملفت أن الولايات المتحدة التى رفعت، فى تلك الظروف، دعوى “نهاية التاريخ” وسيادة الرأسمالية هى التى رفعت فى ذات الوقت دعوة “الصراع بين الحضارات” كبديل للصراع بين الأيديولوجيات الذى ساد فى عصر الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى، وكان هذا يعنى أن الغرب بعد أن “هضم” واستوعب دول شرق ووسط أوروبا بدأ فى الاتجاه نحو “سحق” أمم وحضارات الشرق وعلى الأخص أمم الحضارة العربية الإسلامية.
الملفت أن الصراع ضد الإسلام والعالم الإسلامى جرى التفكير فيها حتى قبل سقوط الاتحاد السوفيتى فى أواخر عقد السبعينيات من القرن الماضى. وأتذكر هنا ما تفضل به المفكر المصرى المبدع الراحل الأستاذ محمد سيد أحمد بهذا الخصوص عقب مشاركته فى مؤتمر مهم فى إيطاليا”، حيث ذكر أن هذا المؤتمر كان يضم مفكرين من أوروبا الغربية والشرقية وأمريكا والاتحاد السوفيتى، وأن الدعوة التى سادت فى هذا المؤتمر كانت تتركز حول “ضرورة توحد دول العالم الغربى والحضارة الغربية معاً وأن تتوقف عن الصراع فيما بينها، وأن تركز على الصراع ضد عدو جديد هو (الإسلام) كبديل للصراع بين الرأسمالية والشيوعية”.
هكذا كان الاختيار مبكراً فى اختيار “الإسلام” كعدو مشترك للعالم الغربى وللحضارة الغربية بديلاً عن الصراع بين الرأسمالية والشيوعية. هذا التوجه وجد فرصته بسقوط الرأسمالية، وتوجه أمريكا لتفرض نفسها “قوة إمبراطورية عالمية” تسيطر وتتسيد على الجميع، وجاءت “فورة العولمة” بقيادتها الأمريكية لتبشر بحضارة عالمية واحدة هى “الحضارة الغربية” بجهود تستهدف “مسخ الحضارات الأخرى” ومنظوماتها القيمية، وخاصة الحضارة العربية – الإسلامية، التى جرى وصفها بـ “الإرهاب” متجاهلين أن الغرب مارس أسوأ جولات الإرهاب الكونى عبر حربين عالميتين فى النصف الأول من القرن العشرين فقط راح ضحيتها مئات الملايين من القتلى والجرحى لم يكن الإسلام والمسلمين طرفاً فيهما.
العداء المفرط من جانب الغرب ضد الإسلام كما أكدته الاعتداءات الممنهجة فى دول أوروبية على رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المصحف الشريف امتد إلى أمم إسلامية كثيرة، أبرزها فلسطين وقبلها العراق وأفغانستان والآن فى سوريا وتركيا عقب نكبة الزلزال فى تشفى غربى و”انحطاط أخلاقى وقيمى” يؤكد أن “صراع القيم” كان ومازال وسيستمر عنواناً لصراع الغرب ضد العرب والمسلمين خاصة ومجمل حضارات الشرق إذا لم يستطع هؤلاء إجبار الغرب على احترامهم وفرض علاقات دولية أكثر أخلاقية وأكثر توازناً واحتراماً بين الأمم كى ينهض العالم كله دون تمييز أو استعلاء. عندها فقط يكون الحوار ممكناً بين الحضارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى