د. محمد السعيد إدريس يكتب:وهم الهروب من الخطر
منذ تأسيس كيان الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين عام 1948 وقادة هذا الكيان مشغولون بقضية محورية تخص الحفاظ على وجود هذا الكيان وبقائه. فهم مسكونون بـ “خطر الزوال” الذى تتحدث عنه الكثير من الأدبيات اليهودية. هم يعرفون حقيقة كيانهم الإسرائيلى باعتباره “كياناً مصطنعاً” تأسس على قاعدة إلغاء وجود الشعب الفلسطينى والوطن الفلسطينى، وإحلال الشعب اليهودى والوطن اليهودى مكانه، لذلك هم يعملون من أجل “ألا يزول هذا الكيان” ولتحقيق هذا الهدف التزموا بحزمة من السياسات ، سواء على مستوى التحالفات الدولية القوية ، بدأت مع بريطانيا كدولة انتداب على فلسطين فى مرحلة ما قبل تأسيس الكيان الإسرائيلى، ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية، التى التزمت بتأمين التفوق العسكرى الإسرائيلى النوعى المطلق على كل الدول العربية ، كما التزمت بتأمين كل الدعم السياسى والاقتصادى المطلوب ، علاوة على ذلك التزمت أيضاً، بالتحالف مع الحلفاء الأوروبيين، بتمكين إسرائيل من امتلاك ترسانة هائلة من الأسلحة النووية ، وتأمين تفردها بامتلاك هذا النوع من الأسلحة غير التقليدية كضمان إضافى لتأمين أمن وبقاء ووجود الكيان الإسرائيلى.
ثم جاء التحالف مع قوى الجوار الإقليمى للشرق الأوسط لغرضين؛ الأول منع الدول العربية من تأسيس علاقات شراكة وتعاون مع هذه القوى الإقليمية، والثانى هو دفع هذه القوى الإقليمية لانتهاج سياسات عدائية ضد الدول العربية لاستنزاف القدرات العربية فى صراعات فرعية تحول دون تركيزها على الصراع الاستراتيجى ضد إسرائيل.
أعقب ذلك سلسلة أخرى من السياسات الإسرائيلية لتدمير القدرات العربية والفلسطينية شملت الاعتداءات العسكرية ثم اختراق القرار العربى الذى أسفر عن انخراط دول عربية فى علاقات تطبيعية مع كيان الاحتلال ما أدى إلى غياب الخطر العربى كمصدر لتهديد الأمن والوجود الإسرائيلى.
بهذه السياسات اعتقد الإسرائيليون أنهم تمكنوا من تأمين وجود وبقاء “دولتهم” بعد أن أمنوا تحالفاتهم الدولية والإقليمية وبعد أن تفردوا بامتلاك السلاح النووى، وبعد أن نجحوا فى تصفية وإنهاء “الخطر العربى” كتهديد وجودى للكيان بعد موجة التطبيع العربية غير المسبوقة.
هنا جاء التحول الإسرائيلى الكبير بالاتجاه نحو الانحياز للتيارات اليمينية والتوراتية المتطرفة لبناء مشروع “دولة إسرائيل الكبرى” كدولة يهودية، فى ظل قناعة بأنه لم يعد هناك وجود لقوة فلسيطنية أو عربية أو إقليمية يكون فى مقدورها الحيلولة دون بناء هذا المشروع ، وكان إقرار “قانون القومية” هو ذروة هذا التحول والتوجه، حيث تم إعتماده “كقانون أساس” له إلزامية الدستور، وهو القانون الذى ينص على أن “أرض إسرائيل (فلسطين تحت الانتداب من النهر إلى البحر) هى ملكية مطلقة للشعب اليهودى وحده، دون أى حقوق لأى شعب آخر، أى الشعب الفلسطينى”.
لم يكن هذا التوجه الذى ينكر أى وجود للقضية الفلسطينية محصوراً فى النخبة الإسرائيلية بل أمتد إلى ما يسمى بـ “الشعب الإسرائيلى” الذى كشف بقوة عن اختياره للتطرف اليمينى فى الانتخابات التشريعية الأخيرة التى جرت فى أول نوفمبر الماضى حيث تمكن بنيامين نتنياهو من تأسيس تحالف يمينى خالص دون حاجة إلى أى تحالفات من خارج الأوساط اليمينية يجمع حزب الليكود وأحزاب الصيهونية الدينية بأغلبية 64 مقعداً فى البرلمان من إجمالى 120 مقعد .
هذا التحول نحو خيار “التطرف اليمينى” اعتقاداً مما جرى ترويجه فى أوساط الرأى العام بأن تيار اليمين هو وحده القادر على بناء دولة إسرائيل الكبرى كدولة يهودية وأن بناء هذه الدولة هو “الضمان الكفيل بتأمين وجود وبقاء دولة إسرائيل والإلغاء نهائياً على خطر الزوال”، فضلاً عن أن هذا اليمين المتطرف هو القادر على تصفية الخطر النووى الإيرانى، الذى يعتبرونه التهديد الأوحد الآن للوجود الإسرائيلى ، وليس تيارات اليسار أو الوسط المتهمة بالمهادنة فى قضايا الأمن الاستراتيجى والموقف من القضية الفلسطينية. إلى أى حد يمكن الثقة فى هذا الاختيار؟
السؤال مهم لأن هناك مؤشرات أخرى بدأت تفرض نفسها على معادلة الصراع حول الوجود الإسرائيلى فإنحسار مخاطر التهديد الخارجى أخذ يفرز على السطح معادلات أخرى للتهديد ولكن من الداخل هذه المرة. كما أن تصعيد الإرهاب الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى أخذ يدفع مجدداً نحو تصعيد مقابل من السلطة الفلسطينية ومن الفصائل الفلسطينية المقاومة من شأنه أن يعود بالقضية الفلسطينية مجدداً كـ”مصدر للتهديد”، ما يعنى أن الركون إلى فرضية أن خيار التطرف اليمينى هو الذى سيقود إسرائيل إلى بر الأمان ليس أكثر من وهم وأحلام يقظة .
فالصراع الداخلى أخذ يتفجر داخل إسرائيل حول السلطة وحول من يحكم إسرائيل، هل هو تيار اليمين بزعامة نتنياهو واليمين الصهيونى المتطرف بزعامة إيتمار بن غفير زعيم حزب “القوة اليهودية” وبتساليئل سموتريتش زعيم حزب الصيهونية الدينية الذى يريد أن يحكم إسرائيل بـ “الشريعة اليهودية” أم تيارات الوسط واليسار ومؤسسات ومنظمات الحكم المدنى الذى يريد أن يحكم إسرائيل بالقانون ويحافظ على ما يعتبره “مؤسسات ديمقراطية” ويرفض تحويل الدولة إلى “دولة دينية” على نحو ما يكشفه الصراع الدائر الآن بين الطرفين حول مشروع القانون الذى قدمه وزير العدل الجديد ياريف ليفين للبرلمان ويتضمن تمكين البرلمان، بأغلبية بسيطة من إلغاء قرارات صادرة عن المحكمة العليا، وتعديل آلية تعيين القضاة من خلال منح البرلمان مزيداً من الصلاحيات فى هذه العملية.
الصراع حول وضعية المحكمة العليا فى الحكم ليس كل الصراع، لأن التحالف الحاكم الآن بتياراته اليمينية تحكمه الأطماع الخاصة. فأحزاب الصهيونية الدينية تغازل نتنياهو بدعم مسعاه لسحب البساط من تحت أقدام المحكمة العليا كى يؤمن مستقبله السياسى ويضع نهاية لمحاكمته المحتملة بقضايا جنائية، مقابل أن يدعم نتنياهو مسعى هذه الأحزاب لتحقيق أطماعها فى السلطة والسيطرة عليها، على نحو ما كتب المحلل السياسى المخضرم روجل ألفر فى صحيفة “هآرتس” العبرية أن نتيناهو يخطط من خلال حكومته الحالية لتدمير جميع مؤسسات الكيان، وتحويل إسرائيل ، بدعم من الائتلاف الذى يدعمه، إلى مملكة إسرائيل الأولى القائمة على “ديكتاتورية الفوقية اليهودية”.
التسريبات التى جرى نقلها مؤخراً عن الجهاز القضائى بخصوص وجود نية لدى المستشارة القضائية للحكومة جالى بهاراف للدفع بوجود “تناقض مصالح” بين السياسة التى يتبعها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالتنحى عن منصبه من خلال الإعلان عن تعذره القيام بمهامه يرجح فرضية أن إسرائيل فى طريقها فعلاً إلى أزمة داخلية كبرى تهدد استقرار الحكم، تسرع البعض باعتبارها مؤشرات لحرب أهلية.
على الجانب الآخر فإن التطرف الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى، على نحو المجزرة التى حدثت فى جنين منذ أيام وإلغاء السلطة الفلسطينية بسببها سياسة “التنسيق الأمنى مع الكيان” واستعدادات المقاومة لخوض معارك دامية دفاعاً عن الأرض والشعب، يؤكد أكذوبة اختفاء مصادر التهديد، وقبلها أكذوبة أن خيار التطرف اليمينى هو الأمان لوجود وبقاء إسرائيل.