كتابنا

 ميثاق “الهوية الوطنية اللبنانية”

ميثاق “الهوية الوطنية اللبنانية”

 

بقلم د. محمد السعيد إدريس

 

يعيش لبنان، بحق، ما يمكن توصيفه بـ “حالة إنهاك مجتمعى”. فالدولة بفعل حزمة من الأزمات المتوالية تعانى الإنهاك الذى كشف عن نفسه بتدنى فعالية أداء الدولة لوظائفها المتعارف عليها كدولة، خاصة الوظيفة الأمنية والوظيفة التنموية والوظيفة التكاملية. والمجتمع يعانى هو الآخر من الإنهاك. فالطائفية السياسية التى فرضت نفسها بقوة على النظام السياسى فى شكل “محاصصة سياسية” أوصلت المجتمع إلى ما يشبه الجمود، ولم يعد كثيرون يعولون على انتماءاتهم الطائفية باعتبار أنها تمتلك الجدارة لتحقيق الإشباع السياسى والاقتصادى والمعنوى ، لم يعد كثيرون يثقون فى طوائفهم كوسائل وأدوات قادرة على القيام بالإنجاز وتحقيق الإشباع سواء فى شكل تحقيق المساواة أو تأمين الحريات، وفضلاً عن ذلك فإن هذه الطائفية تعد مسئولة ، بقدر كبير ، عن حالة “الاختراق الخارجى” الذى أخذ يفتت وحدة المجتمع اللبنانى ويفقده مناعته. وما حدث فى جلسة التصويت لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد التى عقدها البرلمان اللبنانى يوم الخميس (29/9/2022) خير دليل على ذلك خاصة الكشف عن حالة عجز غير مسبوقة فى أداء النواب سواء كانوا من كتلة الحكم أو كتلة المعارضة مما يؤكد أن المجتمع اللبنانى بكل مكوناته بات مدفوعاً نحو طريق مسدود محكوم بالإنهاك والعجز.

فلم تنجح كل الجهود والمساعى التى بذلتها المعارضة المتمثلة فى حزب “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمى الاشتراكى” و”الكتائب” و”قوى التغيير” وعدد من النواب المستقلين فى إنجاز تفاهم على اسم موحد يقترعون لصالحه. فقد انقسمت أصوات المعارضة بين 36 نائباً صوتوا لرئيس “حركة الاستقلال” النائب ميشال معوض نجل الرئيس الأسبق رينيه معوض ، و11 أعطوا أصواتهم لرجل الأعمال سليم إده نجل الوزير الراحل ميشال إده، و10 كتبوا “لبنان” على ورقة الاقتراع. ولم يختلف أمر الموالاة كثيراً، فقد صوتت هذه الكتلة التى تملك 63 صوتاً تتوزع فى “الثنائى الشيعى” (حزب الله وحركة أمل) وتكتل لبنان القوى. انقسم هؤلاء أيضاً وتنازعوا على شخص مرشحهم المفضل هل يكون سليمان فرنجيه (الحفيد) رئيس “تيار المردة” ، أم جبران باسيل رئيس تكتل “لبنان القوى”، واختار هؤلاء التصويت بأوراق بيضاء.

يبدو أن كل هؤلاء، دون استثناء كانوا ومازالوا فى انتظار كلمة، أو كلمات، سر خارجية قد تغير المواقف فى الاتجاه الذى تريده الأطراف الخارجية، نظراً لأن لبنان منذ نشوئه ككيان خلال القرن الـ 19 ، ثم إعلانه دولة عام 1943 مازال أسير هوية طائفية معززة عشائرياً، ومشجعة، أو مخترقة، إقليمياً ودولياً، رغم كل ما ترفعه النخب اللبنانية من شعارات سياسية حداثية، وما ورد على لسان الدكتور “جاك بريا” المستشار السياسى لاسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق والرجل القوى فى الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ذا الأصول اللبنانية يؤكد مدى فداحة هذا الاختراق.

ففى لقاء تليفزيونى نادر تحدث هذا المستشار عن عمق ارتباط بشير الجميل رئيس لبنان الأسبق بأجهزة الحكم فى إسرائيل، وكيف أنه كان يخطط لتأسيس “دولة مسيحية فى لبنان” بدعم إسرائيلى ، كما يكشف عن عمق التنسيق بين إسرائيل وبشير الجميل فى عملية غزو لبنان عام 1982. وما يقال عن إسرائيل يمكن أن يقال عن كل القوى الدولية والإقليمية ذات النفوذ التاريخى والحديث فى لبنان.

وسط كل هذه الحالة البئيسة والتردى غير المسبوق استطاعت جماعة نخبة لبنانية مثقفة هالها حال الإنهاك المجتمعى الذى سيطر بكافة أشكاله السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية على الدولة والمجتمع فى لبنان فبادرت بتأسيس ما أسموه بـ “منتدى التكامل الإقليمى” الذى يسعى إلى تحقيق التكامل بين ثلاثة مستويات: المستوى الوطنى “اللبنانى” والمستوى القومى “العربى” والمستوى الإقليمى “المشرقى”، باعتبار أن اندماج لبنان بإطاره العربى وجواره الإقليمى هو السبيل الأنجع لوضع حد لخيار التردى والعجز.

من أهم ما صدر عن هذا المنتدى تلك “الوثيقة” الحديثة التى حملت اسم “ميثاق الهوية الوطنية اللبنانية”، التى جاءت كمحاولة للإنقاذ وتفادى السقوط فى بئر سحيق، بإعطاء مسألة “الهوية الوطنية” أولوية مركزية لأنها تجمع العناصر والجوامع المشتركة التى تعطى لكل شعب شخصيته وتمايزه عن غيره من الشعوب، وباعتبار أن التوافق على “هوية وطنية لبنانية جامعة” هو السبيل الكفيل بصهر اللبنانيين فى “بوتقة التوحد” ونبذ الانقسام المدمر وخاصة الانقسام الطائفى.

طرح المنتدى هذه الوثيقة للتوقيع عليها من جانب أوسع القطاعات الشعبية، وهو التوقيع الذى يقر ويلتزم الموقع بخمسة عناصر حاكمة لـ “ميثاق الهوية الوطنية اللبنانية” المأمولة وهى:

– الإيمان بأن “الهوية الوطنية” المستندة إلى الوطن اللبنانى، فى حدوده الراهنة، هى قبل وفوق كل الهويات الفرعية الأخرى الطائفية والمذهبية والعرقية، وبأنها المنقذ الوحيد للشعب اللبنانى من كوارث الحروب الأهلية الدورية، كما أنها يجب أن تكون المرجعية الأولى والأساسية لكل السياسات الداخلية والتوجهات الخارجية للبلاد .

– أن هذه الهوية الوطنية لا تتناقض، بل تتكامل، مع انتماء لبنان إلى العروبة القائمة على الديمقراطية والحريات واحترام حقوق المرأة والإنسان ، وأيضاً مع انتماء لبنان إلى الحضارة المشرقية المتوسطية التى كانت مصدر جل الحضارات وكل الأديان السماوية فى العالم.

– التجسيد الأول والأساسى للهوية يكمن فى العمل على بناء الدولة الوطنية الأخلاقية القائمة على: حكم القانون والمساواة والاستقلال التام للقضاء، والإدارة المشروطة بمعايير النزاهة والأخلاق ونظافة الكف، والتنمية الإنسانية المتوازنة، وحماية الحريات كافة، وفى مقدمتها حرية الرأى والتعبير. وتركز الوثيقة على مفهوم “الوطنية” وليس مفهومى “المدنية” و”العلمانية” باعتبار أن مفهوم الوطنية يشمل كل مقومات الدولة الحديثة من السيادة والاستقلال، والرفض المطلق لأى وكل تبعية خارجية، إضافة إلى أنها بطبيعتها الوطنية تفرض كونها مدنية، وفوق كل الانتماءات الفرعية الأخرى.

– لا يمكن أن تقوم الهوية الوطنية والدولة الوطنية، إلا إذا تمدد حب الوطن الذى تعتبر الوثيقة أنه بات حقيقة واقعة وشاملة تبلورت طيلة المائة سنة الأخيرة بين كل أطياف المجتمع اللبنانى ، إلى حب جميع مواطنيه. كما يعنى تمديد حب الوطن إلى المواطنين الانتقال بالبلاد من الخوف والقلق والكراهية بين المواطنين إلى رحاب التضامن والشعور بالأمن والأمان، وليس فقط على صعيد المشاعر والعواطف بل انطلاقاً أيضاً من برامج وطنية يتم خلالها إطلاق ثقافة المعارضة والمكاشفة والنقد الذاتى ، وصولاً إلى تنقية الروح اللبنانية من كل الشوائب التى لحقت بها إبان مراحل الصراع.

 

– وأخيراً، تؤمن الوثيقة بأن هذا الوطن الصغير جغرافياً عظيم الأهمية استراتيجياً للعروبة الواقعية الديمقراطية، المعترف بالمصالح والتنوع، واستعادة الوحدة الثقافية والاستراتيجية والحضارية لإقليم المشرق المتوسطى، وتحويل لبنان إلى جسر حوار رئيسى بين الغرب الأمريكى- الأوروبى وبين الشرق الآسيوى الصاعد والإسلامى، وأيضاً العمل مع مختلف قوى المجتمع المدنى العالمى على إقامة التوازن بين الحكمة والتهور فى النظام العالمى، عبر إضفاء القيم والأخلاق ونوازع الضمير على ظاهرة العولمة، والثورة التكنولوجية الرابعة، وعلى التصالح مع “أمنا الطبيعة”، وطلب الغفران منها لما ارتكبناه نحن البشر بحقها.

يبقى أن نسأل كيف تتحول الوثيقة من إطار “الدعوة” و”التبشير” إلى إطار الواقع والممارسة. هذا هو التحدى المعاصر لنا جميعاً وليس فى لبنان وحده.

  د. محمد السعيد إدريس ميثاق "الهوية الوطنية اللبنانية"
د. محمد السعيد إدريس ميثاق “الهوية الوطنية اللبنانية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى