أزمة الغذاء العالمية بين البنيوي والعرضي
أزمة الغذاء العالمية بين البنيوي والعرضي
إبراهيم علوش
أعلنت منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو” FAO، الجمعة الفائتة، عن انخفاض مؤشر أسعار الغذاء العالمي في أيلول / سبتمبر للشهر السادس على التوالي بعد وصوله إلى قممٍ قياسيةٍ عليا على خلفية العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
يتكون المؤشر المذكور من مؤشراتٍ لخمس أهم مجموعات غذائية على خطوط التجارة الدولية، وهي: الحبوب، الزيوت النباتية، السكر، اللحوم، ومنتجات الحليب. ومع إن تلك المجموعات الخمس لا تمثل بمجموعها إلا 40% من التجارة الدولية في المنتجات الزراعية والحيوانية، إلا أنها تعد الأهم استراتيجياً للأمن الغذائي العالمي.
لكنْ كم منكم شعر فعلاً بانخفاضات متتالية في أسعار الغذاء خلال الأشهر الستة الفائتة؟ إذ إن هناك زيادة ملموسة في الجوع والفقر حول العالم، واحتجاجات في عدة بلدان فجرتها أسعار الغذاء والوقود، لكننا، مع ذلك، أمام تقرير رسمي دولي جديد يقول إن أسعار الغذاء انخفضت ستة أشهر متتالية، فما القصة بالضبط؟
درست على برفيسور في علم الإحصاء كان يقول إن الإحصاءات مثل الوجوه: ربما يكون ما تبديه لافتاً، أما ما تخفيه فقد يكون أكثر خطورةً…
لا يشذ مؤشر الغذاء العالمي لمنظمة “الفاو” عن تلك القاعدة. فهو وسطٌ مرجح بحجم أو حصة كل من مجموعاته الغذائية الخمس في التجارة الدولية. وبناءً عليه، فإن الانخفاض العام في أسعار الغذاء بين شهري آب / أغسطس وأيلول / سبتمبر الذي يبرزه تقرير “الفاو” الأخير، والذي كان بمقدار 1.1% فقط، جاء بسبب انخفاض متوسط أسعار الزيوت النباتية بمعدل 6.6%، وانخفاض أسعار كل من السكر واللحوم ومنتجات الحليب بضع أعشار من 1% لكلٍ منها، على الرغم من ارتفاع متوسط أسعار الحبوب 1.5% خلال الفترة ذاتها.
وتتوقع “الفاو” أن يقَصِّر إنتاج الحبوب عالمياً في العام الجاري عن الاستهلاك، وهو ما يرشح أسعارها للمزيد من التصاعد إذا لم يزدد إنتاجها. والحبوب بأنواعها، مثل القمح والشعير والذرة والأرز والشوفان والسرغوم والجاودار والدخن، عاشت عليها شعوب على مدى ألفيات، وهي أكثر أهمية في الاستهلاك العالمي من الزيوت النباتية لأن قسماً كبيراً مما ينتج من الحبوب يستهلك محلياً، ولا يدخل خطوط التجارة الدولية، فالصين مثلاً تستورد نحو 15% من حاجتها من الحبوب، ومع أن ما تستورده منها كبير، فإن ما تنتجه وتستهلكه محلياً منها أكبر أضعافاً مضاعفة.
ليس هذا فحسب، بل كان متوسط مؤشر أسعار الغذاء عالمياً الشهر الفائت أعلى بـ 5.5% عنه في الشهر ذاته في العام الفائت، وأعلى بمقدار 36.3% مقارنةً بسنة الأساس، وهي 2015. أما أسعار الزيوت النباتية ذاتها، بعد انخفاضها الأخير، فبقيت أعلى بـ 52.6% عنها في عام 2015، بالمتوسط.
ولو نظرنا إلى مجموعات الزيوت النباتية الأربع الأكثر أهمية تجارياً، وهي، زيت النخيل، وزيت حبوب الصويا، وزيت الكانولا، وزيت عباد الشمس، سنجد أن أسعارها شهقت صاروخياً بدءاً من أيار / مايو 2020، في عز أزمة كورونا، بسبب مشاكل سلاسل الإمداد، قبل أزمة أوكرانيا بكثير، لتعود للتباطؤ مؤقتاً في صيف عام 2021، إنما لا شك في أن المفصل الأوكراني أعطى أسعارها جرعة تسارع إضافية، ومعها أسعار الغذاء عموماً، في أول شهرين أو ثلاثة بعد العملية الروسية مباشرةً.
والمعنى هو أن الميل العام لارتفاع أسعار الغذاء من المتوقع أن يستمر ويتصاعد، وما جرى خلال الأشهر الأخيرة من انخفاض كان أشبه بعمليات تصحيح تكتيكية، ترتبط بانخفاض أسعار حوامل الطاقة أساساً، كما سنرى، في سياق تصاعدي استراتيجي.
أزمة الغذاء العالمية: لمحة عامة
يمكن اختصار أزمة الغذاء العالمية في ارتفاع مؤشرات أسعار الغذاء بصورةٍ متتابعة مع تقلص المعروض منه، ما يتسبب في تهديد الأمن الغذائي للأفراد وزعزعة استقرار المجتمعات في ظل تفاقم مظاهر الجوع أو سوء التغذية مع أثرٍ سلبيٍ عامٍ على كل مناحي الاقتصاد التي تعتمد على المدخلات الزراعية، من صناعة المعلبات والمثلجات والعصائر والتبغ، إلى صناعة الأنسجة والجلود الطبيعية، إلى مرافق المطاعم، إلى تصنيع الآلات التي تستخدمها تلك الصناعات، إلى شبكات الشحن التي تستند إليها.
هناك من يحب التحدث عن “أزمة الغذاء العالمية عام 2022″، لكنّ مثل هذا الملصق مضلِل إعلامياً، لأن تلك الأزمة لم تبدأ في العام الجاري، إنما بدأت آثارها تصيب المجتمعات والاقتصادات الغربية في العام الجاري، وبصورةٍ أضعف بكثير مما كابدته مجتمعات جنوب الكرة الأرضية تاريخياً. ولذلك، أصبحت فجأة عنواناً إعلامياً برّاقاً.
الواقع هو أن مؤشر أسعار الغذاء الذي تنشره منظمة “الفاو” شهرياً ارتفع 20% قبيل العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، مقارنةً بشباط / فبراير 2021، ثم جاءت أزمة أوكرانيا لترفعه نحو 40% أخرى خلال 3 أشهر، أساساً بسبب ارتفاع أسعار حوامل الطاقة وانقطاعات تصدير الأسمدة، مع العلم أن روسيا هي أكبر مصدّر للأسمدة عالمياً (وإن لم تكن أكبر منتجٍ له).
أضف إلى ذلك أن ارتفاع أسعار حوامل الطاقة على خلفية الأزمة الأوكرانية والعقوبات على روسيا أسهم في ارتفاع أسعار الأسمدة لأن الغاز الطبيعي ضروري لتصنيعها، ناهيك عن ارتباط الإنتاج الزراعي مباشرة بحوامل الطاقة إما لضخ المياه للري، أو لاستخدام الآليات لحراثة الأرض أو بذر البذار أو حصاد الإنتاج الزراعي أو شحنه من الأرياف إلى المصانع أو المخازن على أطراف المدن. وهذا من دون الحديث عن تكلفة اليد العاملة التي ترتفع مع ارتفاع أسعار حوامل الطاقة.
لذلك، فإن ارتفاع أسعار حوامل الطاقة يرفع كلفة أحد أهم مدخلات الإنتاج الزراعي، وكذلك يفعل ارتفاع سعر صرف الدولار الذي يرفع أسعار حوامل الطاقة والأسمدة بالعملة المحلية. وتلك هي العلاقة الوطيدة بين سعر حزمة البقدونس المزروع محلياً مثلاً وسعر صرف الدولار، إذ يستغرب البعضُ وجودَها.
العرضي والبنيوي في أزمة الغذاء العالمية
لعل أزمة كوفيد 19 والإغلاقات واضطراب سلاسل الإمداد الناشئة عنها، كما الأزمة الأوكرانية وعقابيلها، من العوامل الطارئة التي أسهمت في بروز أزمة الغذاء العالمية وتفاقمها في العام الجاري، على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية أظهرت عاملاً بنيوياً جوهرياً وحاسماً في لوحة العلاقات الاقتصادية دولياً، وهو الصراع المحتدم بين قاعدة الإنتاج الحقيقي، أي المادي الملموس، التي راحت تنتقل تدريجياً في العقود الفائتة إلى دول الشرق والجنوب، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل، وبين منظومة الاقتصاد المالي والنقدي التي ما برحت النخب الحاكمة في الغرب تمسك أعنتها بقوة دولياً.
بالأخص، أظهرت الأزمة الأوكرانية مدى أهمية روسيا في أسواق حوامل الطاقة والأسمدة والحبوب والمعادن في العالم، كما أنها أظهرت، في الآن عينه، قدرة النخب الغربية على فرض عقوبات موجعة حتى على اقتصادات كبرى دولياً.
لذلك، يمكن القول بأريحية إن تفاقم أزمة الغذاء العالمية اليوم، أكثر من ذي قبل، هو من إنتاج منظومة الهيمنة الغربية وعقوباتها المفرطة التي أسهمت بشكلٍ مباشرٍ في ارتفاع أسعار حوامل الطاقة والأسمدة والحبوب عالمياً، حتى لو انعكس ذلك سلباً على مستوى معيشة شعوب الدول الغربية ذاتها، كما نرى أمام أعيننا.
فالحسابات الاستراتيجية المرتبطة بالتصور الغربي لمفهوم “الأمن القومي”، أي حسابات الحفاظ على الهيمنة العالمية في مواجهة القوى الصاعدة دولياً وإقليمياً، ثبت أنها أكثر وزناً عند النخب الغربية من حسابات التبادل الاقتصادي الحر، ولو في ظل إدارة أمريكية من الحزب الديموقراطي، الذي طالما تبنى المنظور الليبرالي الجديد في السياسة الدولية، وهو منظورٌ يعد المصالح الاقتصادية والتجارية أولويةً أعلى من “الأمن القومي”، سوى أن مثل ذلك الخطاب كان مريحاً لمشروع الهيمنة الغربية ما دام الغرب مسيطراً، فإذا تزعزعت هيمنته، ارتد عنه وابتلعه كإله من تمر ليتحول فوراً إلى عبادة “مارس” إله الحرب.
كشفت العواملُ العرضيةُ إذاً في تفاقم أزمة الغذاء العالمية عام 2022 العاملَ البنيويَ الأهمَ: الإمبريالية وعقوباتها هي المسؤولة عن التجويع وسوء التغذية المتزايدين، وعن الآثار الاقتصادية الممتدة لارتفاع أسعار الغذاء ونقص المعروض منها، حتى في الدول الغربية. وهذا ما يغيب عن كثيرين اليوم، للأسف، عند مناقشة أزمة الغذاء العالمية لعام 2022، وهي جزء من مشكلة الخبراء الذين لا تتوافق طموحاتهم المهنية الفردية مع اتخاذ موقفٍ مبدئيٍ من منظومة الهيمنة الإمبريالية!
وعندما ناشدت الدولُ الغربيةُ العالمَ من أجل فتح بوابات صادرات الحبوب والأسمدة عبر البحر الأسود، فعلت ذلك باسم شعوب جنوب الكرة الأرضية وشرقها، وتحت راية التخفيف من “أزمة الغذاء العالمية”، ثم حولت معظم الشحنات الأوكرانية القادمة عبر البحر الأسود إلى الدول الغربية ذاتها، ضاربةً خطابها الإعلامي بعرض الحائط، واستمرت بفرض العقوبات على الحبوب والأسمدة الروسية، حتى عندما عرضت روسيا تسليم المحتجز منها في الموانئ الغربية مجاناً إلى الدول النامية.
تتكرر لعبة التعمية ذاتها اليوم في مواجهة قرار أوبك+ تقليلَ إنتاج النفط، إذ إن اعتراض الإدارة الأمريكية على تلك الخطوة طُرح إعلامياً على لسان جانيت يلين، وزير الخزانة الأمريكية، باسم شعوب الدول النامية والفقيرة التي قد تتأثر سلباً من جراء ارتفاع أسعار النفط (من دون ذكر أثر سرقة النفط السوري أمريكياً على السوريين مثلاً)، لكنّ الجوهري في قرار أوبك+ هو عرقلة فرض سقف سعري على النفط الروسي، الذي يصبح أصعب بكثير إذا ارتفع سعر النفط عالمياً.
عوامل بنيوية أخرى في أزمة الغذاء العالمية
يركز الخبراء الغربيون بالذات، عند تناول أزمة الغذاء العالمية، على التغير المناخي وعوارضه من جهة، وعلى أزمة الطاقة التي تفاقمت ابتداءً من عام 2021، على خلفية خروج الاقتصاد العالمي من الآثار الانكماشية لكوفيد 19، من جهةٍ أخرى.
ينعكس التغير المناخي سلباً على الإنتاج الزراعي ليس من خلال التصحر وانخفاض المنسوب المطري وارتفاع متوسط درجات الحرارة وموجات الحر المتكررة وحرائق الغابات وذوبان الجليد وارتفاع منسوب المحيطات وتغير أنماط التيارات فيها فحسب، بل ينعكس أيضاً على ازدياد الآفات الزراعية والأعشاب الضارة، وهذا يؤثر على إنتاج الهتكار الواحد زراعياً، مع تقليص عدد الهكتارات المتاحة للزراعة.
كما يؤثر ارتفاع منسوب ثاني أوكسيد الكربون في الجو سلباً في القيمة الغذائية للنبتة الواحدة، كما أظهرت الدراسات، حتى مع تزايد كمية الإنتاج الزراعي.
أضف إلى ذلك بروز أنماط مناخية شاذة عن المألوف، مثل التجمد أو الفيضان في غير موعدهما، ما قد يقضي على الكثير من الإنتاج الزراعي. ولعل أهم صفة للتغير المناخي، إضافةً إلى ارتفاع متوسط درجات الحرارة، هي اتساع مدى انحرافها المعياري standard deviation، حراً وبرداً، أي ارتفاع تذبذب درجات الحرارة العليا والدنيا حول معدلها العام التاريخي، وهو ما يضرب المواسم الزراعية في الصميم.
أما أزمة الطاقة العالمية التي غطيتها من قبل، فهي أزمة فاقمتها العقوبات الغربية على مستوردات النفط والغاز الروسيين، كما هو معروف. لكنْ ثمة معضلة كبيرة في العقل الغربي، وهي أنه ينسب التغير المناخي إلى حرق الوقود الأحفوري، مثل النفط والغاز والفحم، في الصناعة والنقل والشحن والتدفئة وما شابه، أي أنه ينسب التغير المناخي للإنسان، وهو يسعى في الآن عينه لتقنين استخدام موارد الوقود الأحفوري، بصفتها موارد غير متجددة يجري استنزافها بسرعة مهولة، ويحرض إعلامياً ضد الاقتصادات الصاعدة بذريعة حرق الوقود الأحفوري وتلويث الكوكب.
العبرة أن مثل هذا الموقف المتشدد من الوقود الأحفوري، والذي لا تطبقه الدول الغربية على نفسها، يتناقض، في المرحلة الراهنة على الأقل، مع حل أزمة الغذاء العالمية، إذ إن أسعار الغذاء ترتبط بصورةٍ وثيقة بأسعار حوامل الطاقة، صعوداً وهبوطاً، تماماً كما حدث عامي 2007-2008 عندما تفاقمت أزمة غذاء عالمية بالترافق مع ارتفاع أسعار حوامل الطاقة بصورةٍ جنونية، وتماماً كما انخفضت أسعار الغذاء قليلاً في الأشهر الأخيرة مع الانخفاض النسبي في أسعار النفط والغاز.
كما أن الموقف المتشدد من الوقود الأحفوري هو موقفٌ يتناقض مع حل أزمة الطاقة ذاتها. وحتى تتوفر بدائل اقتصادية واسعة النطاق للوقود الأحفوري عالمياً، من موارد الطاقة المتجددة، كالشمس والرياح، أو من اليورانيوم أو غيره، فإن الموقف الغربي الحاد من الوقود الأحفوري يترجم عملياً إلى موقفٍ من: أ – التنمية الاقتصادية في الدول النامية والصاعدة، ب – التزايد السكاني جنوب الكرة الأرضية، بصفته عبئاً على موارد الكرة الأرضية غير المتجددة، ما يتضمن استنزاف التربة والمياه الجوفية، لا موارد الوقود الأحفوري فحسب.
يتحول الموقف البيئوي في الغرب هنا إلى موقفٍ عنصريٍ بكل ما للكلمة من معنى، أي إلى موقفٍ من البشر الجنوبيين والشرقيين، من تزايدهم السكاني وتزايد نشاطهم الاقتصادي، الأمر الذي “يهدد الكوكب”، أو يهدد مدى قدرة الغرب على الاستمتاع فيه بالأحرى.
ومن يتعمق في خطاب البيئويين في الغرب جيداً، سيجد دوماً مثل ذلك الخيط المالتوسي الرفيع، نسبةً إلى توماس مالتوس، في ثناياه: عدم تناسب عدد البشر مع موارد الكرة الأرضية. وهو ما نلمسه أيضاً من طريقة تناول أزمتي الطاقة والغذاء العالميتين عام 2022: استخدامٌ بشري جائر لموارد غير متجددة يدفع الطبيعة للانتقام بطريقتها، صودف أنها الطريقة التي حددها مالتوس تماماً: المجاعات والحروب والأوبئة.
ويحمّل “الخبراءُ” الغربيون الصينَ اليوم المسؤولية عن ارتفاع أسعار الحبوب لأنها راحت تخزنها تحوطاً من أي عقوبات أو انقطاع لخطوط الإمداد. لكن أكبر مستوردي القمح مثلاً في العالم اليوم، بحسب مؤشر Mundi لتقديرات عام 2022، هم بالتوالي، من الأكبر للأصغر: أندونيسيا، مصر، تركيا، الصين، الجزائر، المغرب، بنغلادش، نيجيريا، البرازيل، الفليبين، ثم إيران… وهذا يعني أن ارتفاع أسعار القمح، على سبيل المثال لا الحصر، هي مشكلة عربية وإسلامية وصينية وبرازيلية وإفريقية وفليبينية أساساً، حدثت بسبب حصار غربي على صادرات روسيا وبيلاروسيا، فيا لمحاسن الصدف غربياً!
لا حديث هنا عن مضاربات رأس المال المالي الدولي في العقود الآجلة والمستقبلية على المجموعات الغذائية الخمس في مؤشر “الفاو”، وعلى حوامل الطاقة، وأثرها على تذبذب الأسعار في البورصات الدولية، ولا عن كون الغرب تاريخياً المستهلك الأكبر للطاقة غير المتجددة، ولا عن تحويل 40% من إنتاج الذرة في الولايات المتحدة لإنتاج وقود الإيثانول ethanol، الذي بات يشكل 10% من وقود السيارات الأمريكية (يخلط مع باقي الوقود لتحسين جودته).
هذه النقطة لا بد من التوقف عندها قليلاً، إذ إن كمية الذرة اللازمة لملء خزان سيارة بالإيثانول لمرة واحدة تساوي ما يمكن أن يطعم شخصاً بالغاً حصة يومية من الذرة على مدى أشهر، بحسب إحدى الدراسات. وهذا يعني تحويل أراضٍ مروية إلى زراعة الذرة للوقود، ما يرفع أسعار المنتجات الزراعية عموماً ويفاقم أزمة الغذاء العالمية.
في المقابل، تصنع البرازيل الإيثانول من قصب السكر. ويمكن تصنيعه من منتجات زراعية أخرى مثل البطاطا وغيرها. والبرازيل تصنعه بتكلفة أرخص من الولايات المتحدة، ولكن الولايات المتحدة تضع قيوداً على استيراد الإيثانول من البرازيل، مفضلةً إنتاجه من الذرة محلياً بتكلفة أعلى من جراء الدعم الذي تقدمه لمزارعيه. ويلي البرازيلَ في حجم إنتاج الوقود الحيوي عام 2021 الاتحادُ الأوروبيُ، ثم أندونيسيا.
قلَّ من يتحدث أيضاً عن الدعم الذي طالما قدمته الحكومات الغربية للقطاع الزراعي في بلدانها، ما يتيح للغرب أن ينافس المنتجات الزراعية في دول الجنوب، ويعوق التنمية الزراعية فيها. ترافق ذلك في السبعينيات والثمانينيات مع فرض المؤسسات الاقتصادية الدولية سياسات انفتاح اقتصادي على دول الجنوب والشرق تركتها في حالة تبعية غذائية للغرب وشركاته الزراعية الكبرى. وفي الوقت الذي تحدث فيه أزمة غذاء عالمية، ما برحت الحكومة الأمريكية تمول برنامجاً للمزارعين لكي لا يزرعوا أراضيهم تحت عنوان بيئوي.
أخيراً، من اللافت أن بعض أهم مالكي الأراضي الزراعية في الولايات المتحدة هم من الإعلاميين الكبار أو أصحاب شركات الاتصالات. تيد تيرنر Ted Turner، مؤسس شبكة CNN مثلاً، يملك نحو مليوني فدان. جون مالوني، مالك شركة “إعلام الحرية” Liberty Media وشركات اتصالات أخرى، يملك 2.2 مليون فدان. وبيل غايتس ذاته يملك نحو 270 ألف فدان، ومن المؤكد أن هؤلاء لا يشعرون بالأزمة الغذائية العالمية التي يتحدث عنها إعلامهم…