عبد الحليم قنديل يكتب.. غياب “الصدر” المراوغ
هل انتهت قصة “مقتدى الصدر” فى العراق ؟ ، وهل سيكون كذكر النحل فى ممالك الخلايا ، كل دوره أن يلقح الملكة فيموت؟.
بدا السؤال طافيا على سطح الحوادث العراقية الساخنة ، التى كان “الصدر” بطلها الأوحد تقريبا ، فقد أعلن المعمم المثير للجدل اعتزاله نهائيا للعمل السياسى ليلة الإثنين 29 أغسطس 2022 ، وأوقف تغريداته وصفحات تياره الصدرى على كل مواقع التواصل الاجتماعى ، وبدا التصرف المفاجئ كإشارة افتتاح ليوم عصيب صاخب طويل فى حياة العراق ، بدأ باقتحام آلاف من التيار الصدرى لما يسمى بالمنطقة الخضراء “الدولية” شديدة التحصين فى بغداد ، وزحف الصدريون من مبنى البرلمان إلى القصر الحكومى ، وخرج المتظاهرون الصدريون فى عواصم محافظات الجنوب ، فيما بدت الحكومة العراقية عاجزة عن التصرف ، واكتفت بإعلان حظر التجوال ، واستنفرت قواتها لإخراج الصدريين من المسابح والقاعات الحكومية الفخمة ، ومن دون أن تكون النتيجة تهدئة للوضع المتفجر بمشاهده “السريلانكية” ، بل مشت الأوضاع إلى صدام مسلح ، وإلى حرب ليلية بالقذائف والهاونات فى كل “المنطقة الخضراء” ، ومن دون أن يعرف أحد هوية المتقاتلين بالأسلحة المتوسطة والثقيلة ، وإن بدت الصور المنقولة كاشفة إلى حد ما ، وظهر المسلحون من التيار الصدرى على الشاشات بوجوه سافرة ، فيما بدا الطرف الآخر حريصا على التخفى ، وإن كانت هويته متداخلة ومختلطة بأزياء ما يعرف باسم “الحشد الشعبى” ، وفصائله الملتصقة بما يسمى “الإطار التنسيقى” الشيعى المعادى للصدريين والأكثر ولاء لإيران ، وسقط فى القتال الليلى عشرات القتلى ومئات الجرحى ، بعضهم من فصائل الولاء الإيرانى ، وآخرون من مسلحى التيار الصدرى ، وجناحه المسلح المعروف باسم “سرايا السلام” ، وسرعان ما دخل على الخط “مقتدى الصدر” المعتزل للسياسة لتوه ، وأعلن إضرابه عن الطعام احتجاجا على ما يجرى ، ثم دعا إلى ما أسماه مؤتمرا صحفيا فى مقر إقامته بالنجف ، ومن دون أن يجيب على أسئلة الصحفيين الحاضرين ، مكتفيا بكلمته القصيرة المنفعلة ، التى بدت عباراتها القاطعة محشوة بالقذائف ، وأعطى مهلة قصيرة لا تزيد على ستين دقيقة ، ينسحب فيها الصدريون من المنطقة الخضراء كلها ، وينهون الاعتصامات ، ويوقفون حتى المظاهرات السلمية فى أى مكان ، ويهددهم بالتبرؤ منهم إن فكروا فى عصيان الأوامر ، ولم تمر سوى دقائق وثوان ، كان فيها المتظاهرون مسلحون وسلميون ينفذون الأوامر بحذافيرها ، ويعلنون الطاعة العمياء الكاملة لأوامر السيد ، الذى أنهى القتال بكلمة ذات مفعول سحرى ، قال فيها أن القاتل والمقتول فى النار ، وصب جام غضبه على ما أسماه “الميليشيات الوقحة” ، داعيا الصدريين إلى عدم مبادلة الوقاحة بالوقاحة ، وجعل العراق أسيرا للعنف والفساد .
هكذا جرى ، ومن دون أن تنفذ الحكومة قرارها الصورى بفتح تحقيق عاجل ، ولا أن تحاسب أحدا من مسلحى كافة الأطراف ، وبدا أن صفحة الحرب الأهلية الجديدة قد طويت ، فيما تفرغت الأطراف كلها للإشادة بدور الصدر ، وبالمثال الوطنى الرفيع الذى عبرعنه ، كما قال “مصطفى الكاظمى” رئيس الحكومة ، وكما فعل خصوم “الصدر” ، الذين سحبوا بدورهم خيام معتصميهم من أمام المنطقة الخضراء ، فيما تركهم الصدر فى حيرة شاملة من أمرهم ، فهم يتحدثون عن حوار ، لن يشارك فيه “الصدر” بعد قرار اعتزاله ، فقد رفض الحوار حتى من قبل الاعتزال ، وقال أنه لا فائدة ترجى من حوار إضافى مع فاسدين ولصوص ، يتصدرهم خصمه اللدود “نورى المالكى” ، ودعاهم جميعا مع أحزابهم إلى اعتزال السياسة والانتخابات وتشكيل الحكومات ، وإلى رحيل كل الأطراف المشاركة على الساحة بعد غزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 ، وبدا طلب الصدر الراديكالى مستحيل التنفيذ والقبول ، فحكومات وأفراد المحاصصة الطائفية والعرقية ، لا تستغنى عن عبيدها ومصالحها وثرواتها المكدسة بالفساد والنهب العام ، وقد سرقوا ما يزيد على التريليون دولار فى العشرين سنة الأخيرة ، و”المالكى” ـ تاجر “السبح” السابق ـ حصل وحده على نحو سبعين مليار دولار ، وقد كان أطول رؤساء وزراء عراق ما بعد “صدام” عمرا فى منصبه بين عامى 2006 و2014 ، وهو يخفى فرحه فى أكمامه اليوم بعد اعتزال “الصدر” ، ويتصور أن الطريق انفتح بعد تصرف “الصدر” الأخير ، وأن البرلمان صار ممكنا عقده بعد زوال الاعتصام ، ثم اختيار رئيس جمهورية “كردى” بتوافق الأطراف الكردية أو بدونه ، ثم تنصيب رئيس حكومة موال للإطار التنسيقى الشيعى ، سواء كان رجل المالكى “محمد شياع السودانى” أو غيره ، ثم توزيع المناصب والحصص والثروات المسروقة كالعادة ، بعد أن استفاد هؤلاء رسميا من انسحابات “الصدر” ، فقد حل نواب من “الإطار التنسيقى” محل نواب الكتلة الصدرية ، الذين أطاعوا أوامر الصدر بلا نقاش ، وتركوا مواقعهم كأكبر كتلة فائزة بانتخابات أكتوبر 2021 ، فشلت جهودها فى تشكيل حكومة أغلبية وطنية ، “لاشرقية ولا غربية” كما كان يصفها زعيمهم ، فى إشارة ظاهرة لرفض الهيمنتين الأمريكية والإيرانية معا ، ومع إعلان “الصدر” تركه للساحة كلها ، وإطلاقه لتعبير “بئست الثورة” بعد تحولها إلى العنف ، تبدو الطريق مفروشة بأمان الورود لحركة خصوم “الصدر” ، ولاختيارهم لحكومة محاصصة جديدة ، مع إطلاق وعود مؤجلة بالإصلاح ، وتغيير الدستور وقانون الانتخابات ، والدعوة لحل البرلمان فيما بعد ، وإجراء انتخابات مبكرة جديدة على المقاس ، بعد التخلص من حكومة “مصطفى الكاظمى” المؤيدة سابقا من الصدريين ، واستخلاص سلطة القرار والمال لميليشيات الولاء الإيرانى من وراء واجهات حكومة هشة مزيفة ، فيما يبقى الفقر والبؤس والدمار والخراب والضياع من نصيب غالبية العراقيين ، خصوصا مع غياب المعارضة الصدرية واعتزال “الصدر” نفسه .
وبرغم قرار الاعتزال الأخير ، لا يبدو غياب “الصدر” مرشحا للدوام ، فقد سبق أن أعلن اعتزاله السياسة عام 2014 ، وقرر وقتها إغلاق مكاتب التيار الصدرى ، وحل منظمته المسلحة “جيش المهدى” ذات الستين ألف مقاتل ، وتحويلها إلى منظمة ثقافية أسماها “سرايا السلام” ، ثم عاد لفك اعتزاله والعودة لانتخابات وحكومات ، وإلى أن قرر إعادة تسليح منظمة “سرايا السلام” عام 2020 ، وهى التى برزت فى ليلة العنف الأخيرة ، وقد يعود “الصدر” مجددا عن قرار الاعتزال ، وقد أصبح الرقم الأصعب فى المشهد السياسى ، وفى أوساط شيعة العراق بالذات ، ولديه خزان هائل من ملايين الأنصار بين الشيعة الأكثر فقرا ، الذين تحرك شبابهم نوازع وطنية اجتماعية لا طائفية ولا مذهبية ، فالصدر ليس مرجعا دينيا بالمقاييس الشرعية المعتمدة ، بل صار مرجعا شعبيا ، ورث حضوره العفى عن المراجع الدينية بعائلته ، وبالذات عن والده آية الله “محمد صادق الصدر” ، الذى قتل مع إثنين من أبنائه عام 1999 أواخر زمن “صدام حسين” ، وحين قرر “الصدر” الاعتزال أخيرا ، فقد بدا موزعا نفسيا بين الطاعة المرجعية والإغراء السياسى ، فقد أوصى والده المقتول بطاعة تلميذه “كاظم الحائرى” من بعده ، وقد انتقل “الحائرى” من النجف العراقى إلى “قم” الإيرانية ، وقبل ساعات من قرار اعتزال “الصدر” ، كان “الحائرى” قد أصدر بيان اعتزال دوره الدينى كمرجع ، بدعوى تدهور صحته البدنية ، وهو سلوك نادر فريد بين مراجع الشيعة ، دفعته إليه أو شجعته القيادة الإيرانية على ما يبدو ، وكوسيلة للخلاص من صداع “مقتدى الصدر” ، وتحديه لجماعات الولاء الإيرانى فى العراق ، وهو ما بدا ظاهرا فى بيان “الحائرى” ، فقد أوصى مقلديه ومريديه بالتحول إلى طاعة المرشد الإيرانى “على الخامنئى” ، ونقل الحقوق الشرعية المالية إلى حوزته الشخصية ، وكان على “مقتدى الصدر” أن يطيع بصفته مقلدا للحائرى كوصية أبيه ، وقد فعل خلاصا من الحرج الدينى ، غير أنه عبر عن استيائه من إشارة بيان “الحائرى” لشخصه ، ووصفه للصدر بأنه “فاقد للاجتهاد وشرائط القيادة الشرعية” ، ثم وصفه بأنه ليس صدريا و”إن دعا وانتسب” ، وهو ما عارضه “مقتدى” فى تغريدة صريحة ، جاء فيها نصا “يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائرى ، أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم ، كلا ، إن ذلك بفضل ربى أولا ، ومن فضل والدى محمد صادق الصدر ، الذى لم يتخل عن العراق وشعبه”، بدا الرد تعريضا بالمرجع “الحائرى” نفسه الهارب لإيران ، والذى سبق له أن هاجم سلوك “مقتدى الصدر” عام 2011 ، حين نفذ “جيش المهدى” عددا من العمليات ضد قوات الاحتلال الأمريكى ، ودخل فى صدام مع “المالكى” المؤيد وقتها من “الحائرى” وإيران وأمريكا ، وبما أدى إلى دفع “الصدر” لاعتزال السياسة بعدها تقية ، ثم عاد عن اعتزاله ، تماما كما يمكن أن يتكرر هذه المرة أيضا ، ويعود “الصدر الصغير” من غيابه السياسى المراوغ .