تعرف على تاريخ “عمارة البيت” و”سقاية الحاج” قبل الإسلام.. وكيف ظهرت “قريش” في أم القرى؟
أميرة جادو
بدأ تاريخ أم القرى بمرور الزمان، فقد مضى التاريخ بما مضى من أحداث، وظل بيت الله الحرام مثابة للناس وآمنًا يأتونه من كل فج عميق، حيث تغير واقع مكة المكرمة منذ أن ترك أبو الأنبياء زوجته هاجر وولده إسماعيل -عليهما السلام- في هذا الوادي المقفر، لكن حدوث المعجزة وانبثاق بئر زمزم المباركة قد ساعدت على توطين هذه البقعة الطاهرة لتكون مهوى قلوب قبائل العرب التي كانت تضرب أكباد الإبل من أجل رحلات تجارية عبر الصحراء.
قبائل سكنت مكة
قبيلة جرهم
وكانت قبيلة “جرهم” من أقدم القبائل اليمنية التي عاشت في مكة بعد عن غير الله حالها من واد غير ذي زرع إلى واحة خصبة في صحراء العرب المترامية الأطراف، حيث كان الجراهمة هم أول من وافى السيدة هاجر أم نبي الله إسماعيل- عليه السلام- بعد أن تفجرت تحت قدميه بئر زمزم، واستأذنوها في الإقامة إلى جوارها ورضيعها بعد أن تغيرت الأرض بغير الأرض بعد وجود زمزم، وقد أذنت لهم السيدة هاجر بذلك.
ومرت الأيام وكبر إسماعيل -عليه السلام- وتزوج من قبيلة جرهم فاصبحوا أصهاره، وأخوال ولده الأكبر نابت، وبعد أن وضع خليل الله إبراهيم وولده إسماعيل- عليهم السلام- القواعد، وأذن في الناس بالحج باتت مكة مهوى قلوب المؤمنين من العرب ممن ارتضوا الملة الحنيفية لإبراهيم دينا وما كان من المشركين.
وبمضي الأيام مات إسماعيل الذبيح، وتولى ولده نابت حكم مكة وسيادة القوم، لكن تبدل الحال بعد وفاته وضاقت مكة بأولاد إسماعيل، وسيطر أصهاره على حكم مكة، ونشب النزاع بين الجراهمة بقيادة عمرو بن مضاض وأولاد عمومتهم من بنى قطوراء بقيادة السميدع، وتلاقت السيوف في مكان يسمى “فاضح” فانتصر الجراهمة، وخسرت قطوراء وانسحبت إلى “أجياد”، وسميت أجياد بهذا الاسم لكثرة ما كان مع السميدع من الجياد ( الخيول).
قبيلة خزاعة
ومع الوقت كانت “جرهم” الحاكم المطلق لمكة، وأصبحت مشرفة ومسيطرة على البيت الحرام من حج وسقاية، لكن مكة أو بكة كما سموها، لأنها تدك وتسحق أعناق الجبابرة، سرعان ما انتفضت عليهم وعلى ظلمهم وفسادهم، فصدر الحكم الآلهي بخروج جُرهم من البيت الحرام على يد قبيلة خزاعة اليمنية، وقبل إن يحزم الجراهمة أمتعتهم ويغادروا الكعبة، قاموا بدفن بئر زمزم وطمس معالمها نكاية في خزاعة، وبقيت على حالها حتى قام جد النبي عبد المطلب بن هاشم بإعادة حفرها في خبر طويل.
تسلمت “خزاعة” مقاليد الحكم في مكة ووضعت سلطانها عليها، وأعلنت نفسها مسئولة عن البيت الحرام بعد رحيل الجراهمة، وسميت خُزاعة بهذا الاسم؛ لأنها تخزعت أي تفرقت وانتشرت في سائر مكة، وما إن سيطرت خزاعة حتى بدلت وغيرت، فجرهم وإن طغت إلا أنها ظلت متمسكة بالملة الحنيفية لإبراهيم -عليه السلام-، لكن خزاعة قلبت الأوضاع الدينية في شبه الجزيرة العربية رأسا على عقب بتنصيب الأصنام وعبادتها حول الكعبة، لقد رغبت عن ملة إبراهيم ولا يرغب عنها إلا من سفه نفسه.
عبادة الأصنام
وجاءت عبادة الأصنام إلى مكة على يد كبيرهم، عمرو بن لُحى الخزاعي، الذى كان يسافر بتجارته بين مكة والشام، وبحسب عادة أهل مكة كان يصطحب بعض حجارتها في أسفاره حتى يتشوق إليها، وفى الشام وجدهم ينحتون الأصنام ويعبدونها، فنحت بعض الحجارة التي معه، وأقبل بها إلى مكة.
وفى رواية أنه أحضر بعض الأصنام من هناك ووضعها حول البيت، وفي الرواية الثالثة إن هذا الرجل كان له قرينا من الجن فدله على أصنام قوم نوح “ود ، سواع، يغوث، يعوق، نسر” فكشف عنها ونصبها حول الكعبة، وهذا ما يفسر عبادة العرب لأصنام قوم نوح، وفى البداية قالوا إنما تقربنا إلى الله زلفى، ثم أشركوها في عبادة الله، وقد قام عمرو بن لحى أيضا بإطلاق السوائب حول الحرم وهى الماشية التي يتم ندرها للآلهة فلا تذبح، وفى رحلة الإسراء والمعراج، رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصنافا من أهل النار، ومنهم عمرو بن لحى الخزاعي يجر أمعاءه في النار.
تمر الأيام وقد أضحت مكة على غير حالها، فجرهم أخفت زمزم وردمتها، وخزاعة نصبت الأصنام حول الكعبة، أما أبناء أسماعيل فقد ظلوا على حالهم يتمسكون بملة جدهم الأكبر حنيفا مسلما وما كان من المشركين، وانتهت زعامتهم إلى كنانة في ظل سيطرة خزاعة.
قبائل كنانة وقرشها
بقي كل شيء على حاله حتى انجب كلاب بن مرة (من أبناء إسماعيل) ولدا أسماه زيدا، لكن سرعان ما مات كلاب، أما زوجته فاطمة الأزدية فقد تزوجت رجل من قضاعة اسمه ربيعة بن حرام العذري، وحملت ولدها من مكة إلى الشام لينشأ الولد الصغير في كنف قضاعة، وأطلقوا عليه قصى بدلا من زيد، أي البعيد عن أرضه، لأنه رحل من مكة إلى الشام. ظل قُصيا لا يعرف له أبا غير ذلك القضاعي، وحين تخاصم مع أحد القضاعيين، عيره بأنه ليس منهم، وأن لا كرامة للغريب، فسأل أمه عن نسبه فقالت له: أنت أحسن منه نسبا وحسبا، و قومك أهل حرم الله، حينها عزم زيد أو لنقل قصى بن كلاب على العودة إلى مكة، عودة ستكتب تاريخا جديدا لمكة والعرب.
عاد قصى بن كلاب لمكة، والتف حوله قومه من بنى كنانة من أولاد إسماعيل، ولعب الزواج السياسي دوره فسرعان ما صاهر قصى سيد خزاعة حنين بن حبشية وتزوج ابنته، وولد له عبد مناف (جد الرسول الذى كان يُقال له قمر البطحاء) وعبد الدار، وحين أدركت الوفاة حنين بن حبشية عهد بسيادة مكة إلى قصى بن كلاب الذى اعتبره بمثابة ولده، إلا أن جموع خزاعة رفضت هذه الولاية التي تعيد السيادة لأولاد إسماعيل من الكنانيين.
قبيلة قريش
انتصر قصى بن كلاب بقومه وجمعهم ووحدهم في وجه خزاعة، رأى أن الوحدة هي السبيل للانتصار على خزاعة التي تفرقت في مكة، لذا فقد جمع قبائل كنانة وقرشها أي جعلها متقاربة في المكان، لذا سمى قصى بن كلاب بـ”قريش”، ومنه جاءت تسمية قبائل مكة بقريش، وكانت تسمى قبل ذلك بكنانة، فصار لقب قريش لقصي بن كلاب اسما لقبيلة بلغت من العز ما بلغت وشرفها الله بأن جعل خاتم رسله منها.
عادت الحرب من جديد، وتعطل الحج والطواف حول البيت الحرام، وفى النهاية انتصرت قبائل كنانة أو لنقل قريش، لكن خزاعة لم ترحل كقبيلة جرهم، بل بقيت بأسفل مكة.
وانتصر أولاد إسماعيل -عليه السلام- لكن عبادة الأصنام ظلت على حالها، فالفترة الزمنية التي حكمت فيها خزاعة، والتي يقدرها البعض بخمسمائة عام تقل أو تزيد كانت كفيلة بتغيير الحياة الدينية في جزيرة العرب؛ لذا فإننا نجد بعض أجداد النبي كقصي بن كلاب الذى وحد كنانة، أو هاشم صاحب الإيلاف التجاري لقريش، أو عبد المطلب الذى أعاد حفر زمزم كانوا من الأحناف، لكنهم لم يغيروا واقع الحياة الدينية، صحيح أنهم كانوا مصلحين سياسيين واقتصاديين، لكن تغيير الواقع الديني كان بحاجة إلى نبي مرسل.
تاريخ سقاية الحاج وعمارة البيت
وقد شاءت الإرادة الآلهية أن توكل هذه المهمة العظيمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن استتب الأمر لقصي بن كلاب بدأ في اتخاذ خطوات إصلاحية ضخمة تضمن ألا تخرج سيادة مكة عن ولد إسماعيل أو عن قريش، ولتظل لهم مكانتهم في نفوس العرب.
وقد استحداث بعض المهام منها “سقاية الحاج”، كما حرص على حفر عدة أبار لسقيا الحجيج؛ لأن زمزم كما قلنا قد تم ردمها، علاوة على “الرفادة” وهى إطعام ضيوف الرحمن، إقامة المشعر الحرام في مزدلفة، وكان يوقد عليها النار لهداية الحجاج ليأخذوا طريقهم نحو مكة، “السدانة” أي الحجابة ويكلف صاحبها بحمل مفاتيح الكعبة، “العمارة” أي عمارة البيت الحرام.
ويعتبر قصى بن كلاب هو أول من جدد بناء الكعبة ورفع سقفها بعد البناء الأول لإبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، كما أقام دار الندوة لاجتماع قبائل قريش لإبداء الرأي في أمورهم، و”اللواء” ويقصد به راية الحرب التي تنصب لقتال الأعداء.
ووزع قصى هذه المهام بين ولديه عبد مناف وعبد الدار، لكن سرعان ما اختص أولاد عبد مناف بمعظم هذه المهام، ثم بدأ التنافس بين أبناء عبد مناف لاسيما بين بنى هاشم وبنى أمية، تنافس بدأ في الجاهلية واستمر في الإسلام بين الفوز بالنبوة والتطلع إلى المُلك.