حاتم عبدالهادي السيد
تتأنق اللغة وتتمكيج، وتصفو، لتعيد رونقها عبر القصيدة التي تتغيا مقصوديات، وترميزات تجريدية، عبر سوريالية تشبه شجرة صيف عرتها أوراق الخريف، وجردتها من اوراقها الخضراء لكنها غدت لوحة تشكيلية للعراء، ولفضاءات المخيال السيمولوجي الرامز، وفى ” قصيدة المعنى ” – التي أنتهج وجوديتها، كمساحة تتشكل من رحم ” قصيدة النثر”؛ أو بين المساحة الأولى المابينية بين الشعر المنثور وقصيدة النثر، نلمح أولى تشكلات هذه القصيدة المابعد حداثية، والتى تتغيا اللغة كوسيلة لتراسل الحواس، عبر صور سوريالية، ومساحات البياض على الأوراق البيضاء، والتي تشكل عجينة تكوينية لقصيدة المعنى التي أتغياها. و”قصيدة المعنى ” التي – أصطلحها – هي: القصيدة التي تعتمد الموضوع كمحرك لسياق فضاءات القصيدة، وتعتمد المعنى الماورائي للمعنى المباشر، كما تعتمد الإزاحة للوصول إلى المعنى الذى يتقصده الشاعر، كما تعتمد الإيجاز، وتعالقات المعنى” التضمين الاحالي ” للوصول إلى غائية المعنى الذى يتقصده الشاعر؛ وهى قصيدة تعتمد خفوت الموسيقا إلى أقصى حد، وتجرد الموضوع ” كشجرة سوريالية، أو شجرة عراها الخريف؛ لكنها تشى بجمال الوضوح رغم عراء المنظر من الأوراق الخضراء، وهى قصيدة تعتمد تراكمات المعنى وترميزيته للوصول إلى غاية ذاتية: ” صوفية الذات ” عبر الفطرة التى تتجرد تشى بحقيقة الجمال الإنساني عبر اللايقين ، واللابرهان، والتصوف الذاتي؛ وتلك – لعمرى – أبرز خصوصيات القصيدة المابعد حداثية- التى أوردها هنا– كمعطى جمالي للقصيدة الجديدة التي تعتمد التفكيك، والبلاغة الجديدة – عبر التأويل والخطاب المتشظي الكوني- وتتجرد بنثريتها عن الغنائية، وتخفت بموسيقاها وايقاعاتها عن قصيدة النثر، أي أن الإيقاع أقل خفوتاً، فهي أقرب إلى الشعر المرسل – في بداياته – لكنها تتخالف معه، ومع قصيدة النثر معاً في مضامينيتهما؛ التي أوردتها سلفاً، أو يمكن اعتبارها نسخة جديدة أكثر حداثوية لقصيدة النثر أيضًا.
هذا ويشكل اللون العتبة الأولى للولوج إلى ” بيت النص” ،كما أن الرائحة واللون تشكلان في الغالب مرموزات خاصة– خلف ظاهر المعنى، وما ورائيات اللغة التي تبدو الفارس الأول هنا في نسج بنائية الجملة، عبر لعبة الصورة والظلال، وتكسرات لون قزح عبر المرآة المخادعة المخاتلة للذات والموضوع والمعني .
إن قصيدة المعني تستدعي – في الغالب – سوريالية اللغة؛ عبر اقتصادياتها المائزة؛ ومرموزاتها السيمولوجية، والتي تحيلنا عبر الإزاحة والتماثل، وتعالق الذهنية؛ إلى مخيال يسقط رؤيويته وحداثويته على المعنى الآخر:”المعاني الثواني” – اللغة الثالثة – والتي أورها شيخ البلاغيين ” عبدالقاهر الجرجاني”، و”قدامة بن جعفر ” ،في كتبهم التراثية؛ لكن شاعر قصيدة المعنى نراه يستخدم “بلاغة الإحالة” أو “البلاغة التحويلية”؛ ليحيلنا إلى المعنى السيميائى، ومعادلاته الضمنية، والموضوعية، عبر فلسفة اللغة، وتراكميات المعنى، وترميزاته السيموطيقية الدالة .
ومن اللون وتشكلاته؛ إلى العراء النفسي ،أو الفجوة النووية للقصيدة ،وزخم المعنى عبر تجريدية الصورة؛ وسورياليتها كذلك .
وقد يستخدم شاعر قصيدة المعنى تقنية “الـ كان”؛ أو الخطاب للذات والظلال، ليحيلنا إلى التاريخانية عبر الفلاش باك، و”السينوغرافيا”، عبر زمان ومكان غير مُحَدَّين؛ وعبر تحليق في هيولي للعالم المحكي عنه، في الغرفة التي بلا سقف، وربما بلا جدران، حيث العزلة والاغتراب النفسي والروحي، والصمت والسكون؛ عبر التقابلات ” والثنائيات التي تمثل الخواء والعراء الفيزيائي، بما يشعرنا بكونية المكان، وما بعد حداثوية الرؤية عبر السيميائية التى تعتمد معادلات للتوازن طوال الوقت عبر المعني التكويني، أو” الُبني العميقة”، لكنها بنيوية التفكيك، وتكوينية اللا بناء، حيث الفوضي المنظمة للمواقف والمشاهد التي تتقاطع عبر التفتيتية والتّشظي للكون والعالم والميتافيزيقا، وغير ذلك .
وتتوسل قصيدة المعني تطويع ” اللغة “لتجعلها” فرس رهان” وشاهد على انتضام رؤيوية المعنى لدى الشاعر، ويقظته الشاعرة التي تنشد ” تشاركية القارىْ”عبر الراوي، السارد، الحكاء القديم، بما يجعلنا نؤكد لعبة ” تكاملية الأجناس الأدبية” في رفد القصيدة الجديدة بمدلولات أكثر حدساً، ولا يقينية، للتدليل إلى اللابرهان الروحي، عبر مخيال اللغة المكتنز؛ وعبر تدورات المعنى المابعد حداثي، الإحالى؛ الذى يعتمد الإزاحة، ليزيل ” ظاهرية المعنى”، إلى ما ورائياته الكامنة فيه، وتلك لعمرى تعادلية تصنعها “لغة الترادف”، و”اللغة الإشارية” عبر البلاغة الجديدة التي تحيلنا إلى تأول المعنى الماورائي لنعقد تشكّلات رؤيوية، أكثر حداثوية، عبر التشكيل البصرى، الذى صنعته الإزاحة، والمفارقة، والمعانى الثوانى، أو المعنى الثالث الذى تصنعه الرؤيوية للبلاغة الجديدة، بين ما هو متخيل – لدى القارىء- وبين النص/القصيدة، لنسأل عمن سرق المشار إليه في القصيدة؛ على حد رؤيوية ” رولان بارت ” ، وغيره .
وليس معنى انتصارنا للغة – هنا –إننا نتحدث عن ” قصيدة اللغة ” – فحسب – بل نضيف إليها تشكلات المعاني عبر تقنية التبادل؛ فاللعبة الجديدة تعتمد الصورة والظل، وتداعيات الألوان، ولا نقصد الصورة التشكيلية / البصرية بذاتها، بقدر ما نركز هنا على بنية المعنى الاحالي وعلاقاته الرامزة التي نتأولها، كأفق كوني، لنتشارك والشاعر في تصورات الذهنية عنده، ونعبر بالمعنى الجمالي للصورة إلى آفاق أكثر حداثوية، كذلك.
فالمعني – هنا – هو الذي يخلق التوتر، ويحدد مشروعيات للجمال الفيزيائي، وللصورة الفيزيقية المتراءاة .
كما يستخدم شاعر قصيدة المعنى” بنائية التكرار”، للولوج إلى معانٍ جديدة في قصيدته ليحيلنا إلى واقع معاش، عبر مرموزات متتابعة، أيقونية، فهو لا يأدلج القصيدة، بل يصنع لها عدة مرافىء لتعبر اللغة والصورة إلى المعنى المختفي؛ أو” المعنى السرَّي” الذى تغياه”، هو، وتأولناه نحن؛ عبر فيوضات المخيال الكوني، واحالاته السيموطيقية التي تحيلنا إلى الذات والكون والعالم والحياة.
وقصيدة المعنى تجمع المعطى الكوني والذاتي، والابستمولوجي لتشكل ” فلسفة وذاتية جوهرها، حيث فلسفة الشاعر ملتبسة بالوجود الكوني، والفراغ، لا معنية بكتلة، ولا مُحدَّة بزمكانية تؤطرها، خلف” أيديولوجيات” النوع النووي”، بل تعبر سدم الكون والمجرات إلى ثقوب متناثرة في أطراف العالم المتشظي، وتصنع بنائيتها عبر التفكيك والعراء والمعاني والظلال.
والشاعر في قصيدة المعنى يتوارى خلف النشيج، وخلف ظلال الألوان، والمعاني، ليترك لجنوح الخيال آفاقاً أكثر دهشة، عبر رؤيوية متصوف، أو جوال يجر عربة الحياة إلى لا نهائي ممتد .
وهنا لا أدًّعي أنني أتيت بنظرية أو مدرسة عربية جديدة لعلم “القراءة الأدبي”، وإن كنت قد نشدت، وتَغَيَّيتُ ذلك، لكنها اجتهادات نظرية، أرفدها بالتطبيق العملي، – ولعمري – فقد انتهجت هذه الطريقة القرائية لما أطلقت عليها قصائد المعني، لأنشد تجديدية في الشعر والنقد معاً، وطبقت ما رأيته علي بعض الدواوين والقصائد، وتوصلت إلي نتائج أكثر ادهاشاً في تفكيك المعاني المستغلقة عبر استخدامات ودمج بعض المدارس الأدبية مثل: البنيوية والتفكيكية والتركيبية عبر التأويل، لأتهجى منطقة جديدة تبتعد عن علمية الأدب، التي تنتهجها البنيوية، ولا علمية اللغة التي تنتهجهها التفكيكية ،ولنأخذ من الحداثة وما بعد الحداثة منطلقاً تغايرياً لقراءة جديدة للنص الأدبي، وقد اعتمدت منهجية القراءة الأدبية للنص من عدة رؤي، وعبر مدارس ومذاهب عديدة، فأنا أنادي هنا بموت المدرسة الأدبية والمذاهب، وسقوط النظرية مقابل أن ننتصر للنص الأدبي الذي يطرح رؤيويته عبر تعددية النهج القرائي ، وعبر خضم كثرة المذاهب والمصطلحات، والمدارس والنظريات، فلربما نؤطر لمنهاجية عربية لقراءة النص الأدبي بنكهة شرقية عربية، وبمنطلقات ما بعد حداثية، تنتهج عدم القطيعة مع التراث والموروث العربي، وفي نفس الوقت عدم القطيعة مع المنجز النقدي والأدبي العالمي، كي لا نتأخر عن الركب الأممي العالمي من جهة، وليخرج ابداعنا النقدي والأدبي -بنكهة أكثر حضارية- تجمع بين الأصالة والمعاصرة وتنظر للآخر برؤي أكثر احتراماً وصدقية، منطلقين من مسألة التجاور واحترام ثقافات الأمم والشعوب عبر الكونية وحوار الثقافات والحضارات نستفيد ونفيد، ونأخذ ونعطي، ولنعبر جسر عالم التقنيات والفضاءات المفتوحة والكوكبية، وما بعد الحداثة وغيرها بنكهة الشرق العربي الإسلامي، المابعد حداثي الجديد. فإن وفقت فهذا حسبي ومبتغاي. وإن يكن غير ذلك فإن التجريب يتم الاستشراف له بعد نضوج الفكرة، وصدق الفرض والمنهج والمعيار، وليكن لنا ابداع ونقد بنكهة عربية مغايرة، تجمع بين علمي: الاستشراق والاستغراب، وبين القديم والمعاصر، والموروث وما بعد الحداثي، لنستشرف أفقاً جديداً. ولم لا؟ .