رامبو شاعر الفضيلة العالمية

حاتم عبدالهادي السيد
رامبو هو فيلسوف الشعر الفرنسي بل فيلسوف أوروبا كلها والذي اتخذ من الرمزية أساساً لبناء فكر إنساني يتمثل في القيم الإنسانية الجميلة، ولكن ومع كل ذلك يبقى السؤال : هل يعد آرثر رامبو فيلسوفاً يدعوا إلى الفضيلة وهو القائل : إني وحش همج : اتكلم لتضلون ؟!.
شاعر النضال والحرية
وهو القائل أيضاً: “الرصاص !! اقذفوني بالرصاص . هنا وإلا استسلمت، يا للجبناء ! سأقتل نفسي ! سألقي بنفسي تحت سنابك الخيل. آه” !!
وأقول: ”نعم هو فيلسوف يدعو إلى الفضيلة، بل يدعو إلى التطهر من الرذيلة والآثام والخيانة يعيش حياة التمرد ليصل إلى الهدوء، يتمرد على الواقع ليصل إلى الحلم، ويتمرد على الحلم واللاوعي ليصل إلى السديم اللامتناه والمتناه في الآن نفسه”.
رامبو الشاعر الكوني الكبير
لذا رأيناه يغلف الحزن بالدموع، ويغسل آهاته على عتبات الروح، ويصلى في البراح وحيداً، انه يصيح من أجل العالم وسعادة الكون لا من أجل الشقاء والبؤس، هو البائس والشقي والتعس وحده يقول :
“بغير مأوى ولا ملبس ولا قوت، كنت أسمع صوتاً يأخذ بقلبي المجمد، أهذا ضعف أم قوة : هاك إنه لقوة : إنك لا تعلم إلى أين ولا لماذا تسير، فأقتحم كل الأبواب واستجب لكل نداء، انك لن تقتل أكثر مما لو كنت جثة هامدة ” .
الشاعر الاشتراكي الوطني
لقد أذاع النقاد عنه أنه شاعر ماجن، شاعر يجب العربدة ويعشق الترحال ويبحث عن المغامرات، ولكنه لم يكن كذلك، بل كان إنسانا يشعر بالآم البسطاء، وكم عانى مثلهم ودافع من أجلهم، لأنه كما يرى قد خلق ليتكلم بلغتهم يقول:
آه من أجل أولئك الكادحين، رعايا ملك بابلي فاتنين، فارقي أيا ربة الحب العاشقين، ذوى القلوب المتوجة، أيا ملكة الرعاة، احملي للصناع ماء الحياة، كي تظل قواهم في سلام، ومع أن رامبو قد بدأ يكتب الشعر على الطريقة البرناسية أولاً، ثم على طريقة بودلير.
شخصية رامبو
إلا أن شخصيته الفنية ما لبثت أن تبلورت حينما ألقى عن كاهلة عبء التقليد، وأخذ كما يقول يتندال W. Y. Tindall, Forces – يعرض كل حمي الوجود الروحي مجتازاً منطق العقل والمادة في شبه غيبوبة صوفية تدق باب المجهول وتغامر فى أنهار همجية طالما حن إليها فى أحلامه الأولى، ولقد كانت وسيلته إلى ذلك موهبة بصرية Visionary Faculty أو ما يعرف بالتراسل السحري والرقى إلى خداع الحواس والارتفاع فوقها .
شاعر العدالة والحرية
وهو يعنى بذلك لغة الروح من أجل الروح وقد صاغ هذا كله في أسلوب متمرد على العقل، ومنتصراً فيه لهذه الروح الخالدة.
ولكنه مع كل هذا كانت تجربته غاية في الرمزية، ومع انه لم يصرح بذلك إلا أن كلماته وآهاته كانت تشي بذلك وتفضح كرهه للطبقة البرجوازية الرأسمالية، لذا فهو يتحمس للبروليتارية وللاشتراكية ومع كل ينادى بالمحبة والحرية والعدالة والإيمان، لقد كان رحيماً مع العالم ولكنه كان يغلف هذه الرحمة برمزية خاصة، إنها الفلسفة الذاتية للحب وللماهية وللإنسان في كل أنحاء الكون يقول :
”لدى كل المواهب ! ليس هنا أحد وهنا أحد: لا أود بعثرة كنزي أتريدون أغنية زنجية، حوريات ترقص؟ أتريدون أن أختفي، أن أغطس بحثاً عن الخاتم؟ أتريدون؟ بوسعي أن أصنع ذهباً، وأودية شافية. فلتؤمنوا بي فالإيمان يعزّى ويهدى ويشفى . تعالوا جميعاً – حتى الأطفال لأعزيكم، ولأبذل لكم قلبي – القلب الرائع، أيها المساكين أيها العمال، لست أطلب صلوات، تكفيني ثقتكم لأسعد ” ثم نراه ينهى ذلك بقوله: (ولتذكروني، حتى لا أتحسر على العالم ..) .
فهو هنا يرى حياته طيش ونزق فنراه يدعو الجميع إلى المحبة والتطهر والإيمان، هو يفنى من أجل أن يبقى الآخرون ولكن العزاء عنده في أن يتذكره الآخرون، فقط الذكرى وكأنه يريد أن يؤكد أمام ذاته أنه موجود، فهو الشمعة التي تحترق لتنير للآخرين ولكن هل سيذكر أحدهم هذه الشمعة المحترقة ؟!
رامبو الحكيم العالمي
لقد ظل رامبو يحترق من أجل العالم، ومن أجل القيم، فكان ككنز ملئ بالأسرار يوزع الحكمة، ويصطرع عندما يستشعر أوار النار وهو فى جوفها يشعر أنه رجيم ولعين وأنه وقود النار.
فنراه يتحدث عن الظلم وعن الموت والبؤس والشقاء، وعن الهذيان. وعن العذارى الطائشات وهن يتمايلن على صدر البعل الجهنمي وهن يعترفن للرب بالاثم والخطيئة. نراه مع ذلك يبث همومه وأحزانه وآثامه وأسقامه على لسان العذارى وهن ينشدن الصدق المطلق للتحرر من الخطيئة وإلا أثم يقول :
أنصتوا إلى اعتراف رفيقات الجحيم:” أيها البعل السماوي، أيا ربى، لا ترفضّ اعتراف أتعس خادماتك. إني ضالة . إني ثملة . إني نجسة . تباً لها من حياة ! ثم يضيف قائلاً: وفيما بعدا سأعرف البعل السماوي ! لقد ولدت خاضعة له – أما الآن، فالبعل الآخر قد يضربني !! “