فنون و ادب

الشاعر سالم شبانة «بدوي يشبه توماس هانز»

حاتم عبدالهادي السيد

ستتربع السوريالية  بقوة في عالم ما بعد كورونا؛ وسيظهر “الأدب الرمزي” ليحل محل الأدب العادي، أي ستظهر الرمزية أكثر ويشتد أوارها، لما رأيناه من استغلاق وعزلة، وخوف وأمراض، أو على الأقل ستظهر السوريالية لفترات ممتدة لعالم ما بعد كورونا ، والتي ستكتسب ” قصيدة النثر ” أكثر الفضاءات شهرة، وذيوعاً عما قبل، ليتصدر طائر السوريالية الصحراوي العالم الجديد، ونرى الرمزية هي أقرب المدارس للتعبير عن روح العصر الجديد.

ولقد ظهرت المدرسة الرمزية  نتيجة لتطور البلاغة العربية، عبر تجاوزات الخيال الشعري من الكلاسيكي إلى الكوني، ومن السوريالى إلى المستغلق، لتعيد قصيدة النثر للخيال آفاقه، وتفتح كوة زاعقة تنهمر لتمتاح عبر اللغة ثورة جديدة، عبر الاشتقاق ، وتوالد المعاني.

ولعلنا لن نجاوز فنقول إن قصيدة النثر – رغم كل التحفظات التي أخذت على التسمية – هي قصيدة كونية، وان جنح كثيرون إلى أدلجت القصيدة، وإقحام الفلسفة لصنع عرائس شاعرة أكثر قدرة على البقاء، أو التشبث بالحياة ن وقد ساعدهم في ذلك تداخل الأنواع الأدبية لإنتاجية قصيدة المعنى، أو قصيدة الصورة الجديدة، عبر لغة طازجة مخاتلة، وماكرة، ورقيقة حوشية في آن واحد، وقد أحدثت  قصيدة النثر  أو ” القصيدة الجديدة  “، كما أسميها، تثويراً للشعرية عبر الانزياحات والتراكمات والزخم المتواشج الحالي التي تستبع الذات عبر الكوني، والخيال عبر الجمالي، بل واستحدثت شعرية للجميل عبر القبح كذلك .

وتندرج قصيدة سالم شبانة  “بلا بيت .. بلا امرأة”، عبر هذا النوع من القصائد التي تنشد الفراغ والوحدة، العراء والصمت، والسكون والخواء النفسي، عبر التجريدي والسوريالى؛ بداية من العنوان، ومروراً بالمواقف والإحالات التي تحيلنا إليها عبر التغريب للذات، بل والمعنى، وسياقاته كذلك، يقول : “يا أبانا إنا ذهبنا في البلاد التي تلفظنا كبذور الفاكهة، لا نملك إلا أمثولة راع أعور، وأغنية أمنا التي ماتت، في حضانة الغربة.

انه الشاعر الذي يغرب الصورة، ويغنى مع القمر النحاسي؛ أغنية الذات وتمرجحاتها؛ وقلقها الوجودي، عبر  الحياة المجردة، السوريالية التي  تنشد العراء، لا العرى كشجرة الخريف المتساقطة الأوراق ، يقول: “غنينا تحت القمر النحاسي  / وبنات آوى تنبح.  / ماذا أعطتنا الحياة!  / وماذا أعطيناها:  /سوى غضب مكبوت،  / وخطى في الظهيرة الصيفية تذبل”.

 

وشاعرنا هنا ينشد الإيمان الصوفي عبر مزامير الرحمة، وتراتيل المديح  في الأديرة والكنائس، حيث تحيلنا لفظة أبانا الذي في السموات إلى الإنجيل، والى الإله الخالق عبر الخيال المثيولوجي الديني، وكأنه يترنم بأنشودة الشجن والشجو عبر الحياة الأبدية الزاعقة، يقول: “يا أبانا لا سلال في انتظارنا / ولا امرأة تقد قميصنا  / وتجلو رجولتنا كحجر الرحى،  / لا أحلام تشحذ طاقتنا /لنعبر هذا الحصار. / يا أبانا لم فرقتنا في البلاد بلا بيت / نتوب فيه عن ذنوبنا التي اقترفناها غاضبين”.

وفى قصيدته : ” أحدّق في الليل ” نراه يتغيا صوراً طازجة ، عبر بلاغة سارد، شاعر، يخش إلى الروح، ويستلب  تشاركية أولى للجمهور الأدبي ، المستقبل لهذا اللون المتشاعر، ذا المشاعر الغرائبية الحميمة ، عبر صور الصحراء السوريالية الجديدة ، وتلك لعمري طاقة جديدة  وحمولات للغة عبر الخيال  الباذخ ، اذ نرى الليل الغويط للصحراء السيموطيقية الممتدة، والبراح والعراء المتشائل ،وهو يستدعى امرؤ القيس ليعيد ترتيب المتوالية السردية ، يقول 🙁 أحدّق في الليل الغويط / الليل الصحراويّ / ليل امرئ القيس القديم  القاهر / في هذه الليلة البدائية  / بنجومها القريبة كثقوب مضيئة أحدّق / بألم الجيوب الأنفية المرّ / بالصداع / الغثيان / الغضب / والحزن أحدّق / فأرى كل شيء هيناً ).

وهو – هنا – يحدق، يراقب ويطيل النظر، يدقق في كل شيء فيراه هيناً، فقد تساوت لديه الهموم والصداعات التي تعصف به كل الوقت ، وغدا شريط حياته يمر من أمامه، وهو غير مبالٍ في الليلة الطويلة، فقط يحدق في السكون ، كتمثال يراقب عن كثب : حياة تمر كسرد متكسر ممتد، أو أنها الحياة فحسب ، حيواتٍ بكامل هيئتها ،وهيبتها، مرها ، وحلوها ، تتقاطع وتتواشج ، يقول : ” أنا هين / الماضي هين / الحبّ هين / الكلام الذي / يجف / علي شجر الليل هين / الوعود هينة / الذكريات / البكاء الخافت / القبل العميقة / الدموع في صدري / العاري / كل ذلك هين / في هذه الليلة الطويلة”.

وشاعرنا ينشد الصبر ،ويتصبر بالجواح والجأر إلى البراح لتخرج سيمفونية الشعر تتهادى على ربى الصحراء الممتدة ، فهو يرى الحياة ككومة قش في مهب العاصفة، حيث تتكور الآهات والآلام وتجثم على قلبه الأخضر الصغير، يقول: “أرى الحياة كومة قش / في مهب العاصفة / والثقل اللا مرئي للماضي يجثم / علي قلبي”.

في النهاية، تظل قصيدة النثر تحمل أسئلة الوجود والكون والعالم، وتنشد اكتمالية لتنضم في مسبحة الكون، وحبات عقد الشعرية العربية الكبرى ، وتظل ” كورونا ” ملهمة الشعراء لتستشرف للعالم الجديد، ” عالم ما بعد كورونا ” والذي سنشهد تحولات على المستوى العالمي والقومي، حيث ستصعد بلاد وتتهاوى أخرى، وتسود رؤى ونظريات مقابل تراجع أخرى، فالعالم يشهد الآن وسيشهد؛ تحولات كبرى؛ على جميع الأصعدة : “السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، وحرى بالأدب أن يلاحق ويساوق هذه التحولات العالمية الكبرى، عبر الوجود والعالم، والكون والحياة .

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى