المشهد الشعري في سيناء ” بين البحر والنخيل ” وعالم الشعر مابعد كورونا
حاتم عبد الهادي السيد
هنا سيناء أرض الله الخضراء في مصر ، أرض الشعر ، والسحر ، والنخيل ، والجمال ، حيث الصحراء تبدو كطاووس يصدح في بريّة الخلود ، وحيث التلال والسحب المتراكمة، وحيث يتلألأ قمر الشعر بخيال جامح وطموح ، وهناك حيث المتوسط يصدح البحر لشمخ نخيل يهدر بالحب والبراءة والصمت المقدس النبيل، والشعر الجميل ، سحابة النور، وماء الحياة والوجود، وظل الله على الأرض الخضراء، عبر الكون والعالم، والحياة.
وسيناء أرض البطولات والمجاهدين، أرض المقاومة الشعبية الباسلة، بها سار الأنبياء لرفع لواء الحق، وفوق أرضها جرت المعارك العظيمة، فكانت مقبرة للغزاة، ولم لا وهى الأرض التي تجلى فيها الرب عز وجل لموسى عليه السلام ؟!. إن سيناء- بوابة مصر الشرقية – وحصنها الحصين عاشت لتشهد الانتصارات العظيمة لشعبنا المصري العظيم.
لقد قاوم أبناء سيناء الهكسوس والتتار والمغول والصليبين، كما قاوموا الإنجليز والفرنسيين والصهاينة، وكانوا فوق كل ذلك يحاربون من يحاربهم، ويسالمون من يسالمهم ، ولم يرتضوا الذل والمهانة، فدافعوا عن التراب الوطني، ذلك التراب الذى قدسته الأديان جميعاً.
وفي سيناء حارب الجميع ، حارب النخيل والجمل، وحاربت الناقة والجبال، والصحارى والسهول والوديان، وليس هذا من قبيل المبالغة، بل كان لكلٍ دوره في المقاومة الباسلة. هذا ولم يركن البدو والحضر للاستعمار وأعوانه، بل سعوا جاهدين، فرادى وجماعات، زرافات ووحدانا لخرق صفوف الأعداء، كما قاموا بعمليات فدائية وطنية تشبه الأساطير، وتوالت قصص البطولة والفداء يحكيها الأجداد للآباء، ويرثها الأبناء عن الآباء، لتسجل قصة شعب سيناء المناضل جيلاً بعد جيل. لقد جاءت إسرائيل إلى سيناء بعد أن أعطى الإنجليز اليهود “وعود بلفور” لإنشاء المخطط الصهيوني من الفرات إلى النيل، وعاشت فلسطين وجارتها سيناء تحت وطأة المستعمر الصهيوني الغاشم، فكانت حرب عام 1948م، وكان العدوان الثلاثي عام 1956م ثم نكسة عام 1967م وأخيراً كان النصر في أكتوبر عام 1973م، ثم تحرير سيناء في عام 1979م لتعود سيناء إلى أحضان الوطن بعد أن رزأت تحت نير وطأة الاحتلال أعواماً طوالْ.
الشعر السيناوي عبر العصور
لقد قاوم أبناء سيناء المحتل، وشاركوا آلام الأمة العربية في حرب اليمن، وفى حرب فلسطين، وكان منهم الشهداء الذين سالت دماؤهم لتحرير التراب العربي العظيم. وفى عام 1967م وما بعدها تجلت البطولات على الأرض الطاهرة، كما تجلت معادن الرجال؛ بل والنساء والأطفال. لقد قامت التنظيمات الأهلية بدافع وطني حميم، ثم بدأت تتشكل في صورة تنظيم أطلق عليه اسم” منظمة سيناء العربية” وأشرفت على أمره المخابرات الحربية المصرية، كما قامت تنظيمات أخرى مثل “لجنة أبناء سيناء الأحرار” والتي عملت بعد ذلك بتوجيهات من المخابرات، كما قامت بعض التنظيمات الشبابية “كمنظمة صوت العروبة” والتي قامت بالإضراب مع أبناء وأهالي سيناء، كما كان هناك رجال شرفاء يعملون بشكل فردى لا يريدون إلا ابتغاء مرضاة الله والشهادة في سبيله، كما كانت هناك خلايا أهلية كونها بعض المخلصين وتصرفوا من أنفسهم دون تكليف، وكل ذلك يشهد على عظمة هذا الشعب المناضل والبطل.
ولنا أن نقول: إن الانتماء والولاء، والدافع الوطني كانوا وراء كل هذه التنظيمات وغيرها، مما يدل إلى مدى عمق الوطنية وتغلغلها في شريان أبناء سيناء الأبطال، دون مزايدة من أحد، وتبقى ملفات منظمة سيناء وملفات المخابرات الحربية شاهدة على عظمة هؤلاء الأبطال.
منظمة سيناء العربية والشعر البدوي
تشكلت منظمة سيناء العربية في القاهرة عام 1969م، وضمت في عناصرها أبطالاً من شباب منطقة القناة وسيناء، في السويس والإسماعيلية، وفى بورسعيد، وفى شبه جزيرة سيناء شمالها وجنوبها، ولقد أشرفت المخابرات الحربية المصرية على سير العمل بها، وذلك بغرض إقلاق العدو، وعدم جعله يركن الى الراحة، بل ليفهم أنه يعيش مع رجال يكرهونه، ومع شعب يريد له الزوال.
لقد كانت العمليات بمثابة رسائل موجهة للمخابرات الإسرائيلية ليعرفوا أن مخابراتنا ترصد تحركاتهم، ولن تجعل لهم الأرض يستطيبون على ثراها، بل ستكون مقبرة لهم إن عاجلاً أو آجلاً، ولقد توافد أبناء سيناء للانضمام للمنظمة بطرق مباشرة أو غير مباشرة، كما قاموا بتكليف ذويهم داخل الأراضي المحتلة ليقوموا بجمع المعلومات عن العدو، ورصد تحركاته، وتعدى الأمر بعد ذلك للقيام بعمليات فدائية كان لها الأثر في خلخلة الكيان الصهيوني أمام شعوبهم من ناحية، وأمام العالم من ناحية، وهذا يدل إلى مدى شجاعة وجرأة ووطنية من كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال، كما تم إعطاء بعضهم أجهزة لاسلكي وتزويدهم بشفرة خاصة لم يستطع العدو فهمها على الإطلاق، فكانت الشفرة أحياناً من خلال قصيدة بدوية يلقيها بعض شعراء البادية فيفهمها من بداخل الأرض المحتلة في سيناء، كما كانت الشفرة من خلال قطعة موسيقية تبثها إذاعة “صوت العرب” واذاعة “الشعب”، ولقد كان للإعلام دوره الرائد من خلال “برنامج الشعب في سيناء” في تنفيذ أغلب العمليات فى الداخل؛ من خلال شفرة البرامج الموجهة وكان من الذين أدوا وكان عطاؤهم متميزاً أ. حلمي البلك الإذاعي الشهير، ابن سيناء، أ. عطية سالم مدير مركز المعلومات بالعريش، أ. مسلم الحوص ، أ. الشاعر والمخرج / أسعد الكاشف، وغيرهم كثيرون . كما كان لأستاذنا محمد محمود اليماني، ابن سيناء البطل، – مدير المخابرات الحربية – آنذاك – الدور الرائد في توجيه أغلب العمليات لمنظمة سيناء العربية، وغيره من رجال القوات المسلحة والمخابرات.
ولقد تم استخدام الشعر كشيفرة للتواصل بين الفدائيين داخل سيناء، ورجال المخابرات العامة في مصر، وكان الشاعر البدوي يكتب القصيدة باللهجة البدوية التي لا يعرفها العدو الصهيوني في مبني المخابرات العامة بمصر، ثم تتولي الاذاعة المصرية بثها من خلال برنامج ” الشعب في سيناء” بصوت العرب، فيتلقاها الشاعر البدوي في قلب سيناء ،ويقوم بفك شيفراتها وتوجيه الأوامر للفدائيين لنسف مواقع العدو الاسرائيلي داخل العمق في سيناء، ومن هنا كان الشعر البدوي هو سلاح المعركة في حرب الاستنزاف، وفي التمهيد لانتصارات أكتوبر عام 1973م .
خارطة شعراء سيناء
يتوزع المشهد الشعري في سيناء بين الأدب الرسمي” الفصيح “، وبين ” الشعر البدوي ” النبطي” ، ولا يمكننا بالطبع أن نفصل أحدهما عن الآخر، فخصوصية سيناء تبدو في الشعر النبطي، بينما تتوزع خصوصية المدينة بين جميع أشكال الشعر الأخرى. ويعد الشعر النبطي واحداً من طرق التعبير الشفاهي الشعرى الذى نجده عند شعراء الخليج العربي والبوادي العربية والمملكة العربية السعودية وبادية الشام، وغيرها.
واذا كان الخليل بن أحمد الفراهيدي قد استحدث موسيقا الشعر العربي العمودي وتفاعيله ، وتبعه الأخفش بإضافة بحر المتدارك، الا أن الشعراء الشعبيين النبط قد استحدثوا بحوراً مغايرة عن بحور الخليل ، لتتمايز الشعرية العربية ، ولتندغم اللهجة العامية الشعبية في تناسق وزنى ولحني اقتضته طبيعة النبر اللهجي، والموسيقا الخاصة التي تتناسب والبيئة الصحراوية ، حيث مفردات الطبيعة الصحراوية تشكل هوية وأغراض هذا اللون الشعرى الجميل/ ومن أشهر شعراء البادية الشاعر : عنيز أبو سالم، حسين التيهي، وغيرهما .
ولعلنا هنا سنقصر حديثنا في المشهد الشعري على شعراء سيناء الذين يكتبون بدون اللهجة البدوية، ولمن أراد أن يعود لشعراء البادية فإنني أحيله إلى كتبي عن الشعر النبطي، مثل كتاب : ” الشعر النبطي في سيناء”، ” الشعر البدوي، ثقافة البادية، ” موسوعة أعلام سيناء، وغير ذلك .
بداية الحركة الشعرية في سيناء
بدأت الحركة الشعرية في سيناء منذ القدم بجهود شعراء كانوا يلهجون الشعر دون معرفة بأوزانٍ، أو بحور، إلا أن التأريخ للحركة الشعرية في سيناء بشكل فاعل يبدأ منذ الخمسينات على أيدي شعراء كتبوا الشعر العمودي بشكل رصين، وكان أبرزهم الشعراء : محمد عبدالوهاب خطابي، أحمد سلامة الليثي، سالم اليماني، جمعة حماد جهامة الشيخ محمد عايش عبيد، محمد فؤاد يعقوب، الشيخ عيد أبو جرير، عبدالهادي محمد السيد، حسن كامل شعبان، زكريا حمدان الرطيل ، وغيرهم .
ولنا أن نعرف أن محمد عبدالوهاب خطابي هو أول من نشر قصيدة في جريدة المقطم ، ثم تبعه الأستاذ، سالم اليماني – وكان أميناً عاماً للاتحاد الاشتراكي العربي، كما نشر جمعة حماد جهامة بجريدة الدستور بالأردن – وكان وزيراً للثقافة في الأردن بعد هجرته من سيناء إلى الأردن في الستينات . كما صدر أول ديوان شعري لشاعر سيناوي عام 1952م بعنوان وطنيات، للشاعر أحمد سلامة الليثي، ثم تبعه دواوين : ديوان ” بستان المحبة” للشاعر والشيخ عيد أبو جرير – شيخ ومؤسس الطريقة الجريرية الصوفية بشمال سيناء ومصر ، ثم دواوين الشيخ محمد عايش عبيد عن السيرة النبوية، ديوان سيرة النبي “ص” شعراً” للشاعر محمد فؤاد يعقوب، وغيرها.
ويمكن لنا أن نقول : إن الحركة الشعرية في سيناء بدأت- فعلياً – بعودة سيناء إلى السيادة المصرية بعد فترة الاحتلال الغاشم لها من قبل الصهاينة، وتحرير سيناء عام 1979م، وهو عمر قصير في تاريخ حركة الشعر المصري، إلا أن أدباء سيناء المعاصرين كانوا يسابقون الزمن لوضع سيناء علي خارطة الشعر المصري، وقد كان.
وتبدو الريادة لحركة الشعر التي كان لي شرف قيادتها أنا– حاتم عبدالهادي السيد – ” كاتب هذه السطور “، مع شعراء كبار أمثال : الشيخ محمد عايش عبيد ، د. رمضان الحضري، عماد قطري، اسماعيل أبو زعنونة، محمد المغربي، أشرف العناني، علي نجم، بركات معبد، د. أحمد سواركة ، سامي سعد ، عبدالقادر عيد عياد، د. سمير محسن، عبدالكريم الشعراوي. محمود فخر الدين، أحمد فاضل، دنيا الأمل اسماعيل حسونة، نبيه البيك، سمير ثابت ، حسن غريب ، وغيرهم . كما كان من بين الأوائل : أحمد أبو حج، مصطفى آدم، نيرمين البيك، محمود أمين الخليلي وغيرهم . كما برز بعد ذلك من بين الشعراء: حسونة فتحي، د. صلاح فاروق العايدي، سالم شبانة، رانيا النشار، ايمان معاذ، محمد ناجي حبيشة، عوض عبدالستار، محمد علي سلامة. أشرف حسونة . وتبعهم في كتابة الشعر الآن – من الشعراء الشباب : كريم سامي سعد، د. ماجد الرقيبة، شادي سامي سعد ، أحمد سالم، أسعد الملكي، فاطمة موسي نبهان، حسام كمال ابراهيم، وغيرهم .
من كل هذا الزخم النوراني أمسك الشعراء – هناك – بعباءة الشعر الثمينة ،ورتقوا على فخامتها نقوشهم الصغيرة ، وتربعت قصيدة النثر – فيما أحسب الآن – صدارة المشهد السيناوي ، بعد أن كتبوا من قبل القصيدتين : العمودية والتفعيلة، كما كتبوا الشعر العامي . وكأنهم ،وهم المتمسكون بقوة للتراث والأصالة يقولون للعالم : نحن هنا في برية الخلود نصنع المعاصرة والتمدين، ولكن بنكهة الأصالة، متدثرين بالموروث واللغة العربية ومعاجم الحب في صحراء سيناء الشاسعة ليقدموا الجديد المتمدين ، والتراثي الممزوج بمعاصرة دافقة تندغم مع المنجز العالمي والعربي للشعرية الجديدة عبر بوابة قصيدة النثر التي تستشرف آفاق الحداثة والكونية والابستمولوجيا لتسبح ويسبح معها الشعراء في سيناء بمصرنا الخالدة في عباءة الشعر العالمي المعاصر ، وحيث الرؤى المغايرة والتحولات التي تنصهر يخرج الشعر في سيناء مقدساً وجميلاً ليدلل إلى سيموطيقا الحياة والكون والعالم .