تاريخ ومزارات

غزو الظلال.. حين تسلل الهكسوس إلى قلب النيل وبسطوا نفوذهم على عرش مصر

الهكسوس، في عمق التاريخ المصري، حيث يسري النيل كنبض الخلود، هبّت من الشرق عاصفة مظلمة قلبت الموازين، وكانت مصر آنذاك تمر بواحدة من أكثر مراحلها اضطرابًا، بين عامي 1650 و1550 قبل الميلاد، في ما يعرف بعصر الانتقال الثاني، حين انكسرت هيبة الفراعنة وتصدعت جدران الدولة القديمة، لتصبح البلاد ساحة مفتوحة أمام الغزاة، ومن بين ركام هذا الضعف، خرج شعب غامض اسمه الهكسوس، الذين وصفهم المصريون بكراهية شديدة بأنهم “حكام الأراضي الأجنبية”، لكن من هؤلاء الغرباء الذين سرقوا مجد النيل؟ وكيف تمكنوا من التسلل حتى قلب مصر، ثم السيطرة على عرشها لقرن من الزمان؟.

الهكسوس.. تجار تحولوا إلى غزاة

كانت بدايتهم هادئة كنسمة خفيفة لا تنبئ بالعاصفة الهكسوس شعب سامي الأصل، من المناطق الواقعة بين الشام وشمال الجزيرة، اعتادوا الجمع بين التجارة والحرب لم يدخلوا مصر بسيوف مشرعة، بل بأقنعة التجار، يتسللون شيئًا فشيئًا عبر بوابة سيناء، حاملين معهم بضائعهم من الشام وقبرص وبحر إيجه استقروا أولاً في شرق الدلتا، المنطقة التي تتحكم في شرايين التجارة القادمة من البحر المتوسط، وهناك شيّدوا مستعمراتهم في مدينة هوت-ورت التي أصبحت لاحقًا أفاريس، مقر حكمهم الرئيسي.

كانت السلطة المركزية المصرية آنذاك ضعيفة، تعاني من تفكك إداري وتناحر داخلي، فغاب الأمن، وذابت الحدود، ومع مرور الوقت، تضاعفت أعداد الهكسوس، وتزاوج بعضهم مع المصريين، بينما انخرط آخرون في العمل الإداري، حتى أصبحوا جزءًا من النسيج المحلي، ينتظرون فقط لحظة الانقضاض، وكما تتسرب المياه من شق صغير حتى تغمر المكان كله، تمكن الهكسوس من مدّ جذورهم داخل دلتا النيل دون أن يشعر أحد.

اللحظة التي انهارت فيها الجدران

وفي عهد الملك توتيمايوس من الأسرة الثالثة عشرة، تحولت المؤامرة إلى عاصفة، و يروي المؤرخ المصري مانيتو أن الغزو جاء كقدر لا يرد، إذ كتب: “في عهد توتيمايوس، اجتاحتنا ضربة من الشرق، من قوم مجهولين، استولوا على البلاد دون مقاومة تذكر”، وكان الهكسوس قد أصبحوا جيشًا مجهزًا بأسلحة متطورة لم تعرفها مصر بعد: عربات حربية سريعة، ودروع برونزية متقنة، فكان تفوقهم التقني كافيًا لاجتياح الدلتا في زمن قصير.

احترقت المدن، وهُدمت المعابد، وسبيت النساء والأطفال، بينما سقطت الأسرة الثالثة عشرة لتفسح الطريق لفوضى دامية، وفي الجنوب، ظهرت أسرتان ضعيفتان – السادسة عشرة والسابعة عشرة – تحاولان الحفاظ على ما تبقى من الكرامة المصرية في طيبة، لكن دون جدوى، و كانت النار قد التهمت الشمال، وأصبح الهكسوس سادة أرض مصر السفلى.

ملوك من الظل.. يحكمون مصر المقسومة

توج ساليتيس أول ملوك الهكسوس حاكمًا على مصر، واتخذ من أفاريس عاصمة له، بينما فرض سيطرته على الشمال حتى القوصية جنوبًا لم يمد نفوذه إلى طيبة، بل اكتفى بفرض الجزية على ملوكها المحليين الذين حكموا الصعيد تحت وطأة الإذلال، ومع ذلك، لم تنطفئ جذوة المقاومة في الجنوب، إذ بدأ حكام طيبة يتربصون بالفرصة لاستعادة المجد المسلوب.

وفي خضم هذا الانقسام، ظهرت قوة جديدة في الجنوب الأقصى، حيث أسس الكوشيون مملكتهم في كرمة، لتصبح مصر بذلك مقسومة إلى ثلاثة كيانات متنازعة:

  • الهكسوس في الشمال، يحكمون بعنف وضرائب باهظة.
  • المصريون الوطنيون في طيبة، يتحينون الفرصة للتحرير.
  • الكوشيون في الجنوب، يبنون مجدهم المستقل على ضفاف النيل العميقة.

كانت مصر، التي كانت يومًا موحدة تحت راية الفراعنة، قد تحولت إلى لوحة من الفوضى، ممزقة بين قوى طامعة، لكن من رحم هذا الانكسار وُلدت روح المقاومة التي ستعيد لاحقًا مجدها على يد ملوك طيبة، وعلى رأسهم أحمس الأول، الذي سيُطهر الأرض من الغزاة ويغلق باب النيل في وجوه الغرباء إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى