المزيد
الذكرى الباكية.. قصة قصيرة بقلم فاطمة مندي
تفتح خيط ضفيرتها الشقراء، فتنثر شعرها أمام المرآة، لم تكترث لذلك الجرح الذي أخذ شكل الخنجر، لكنها دائماً ما تتلمسه بأطراف أصابعها الناعمة، تفرك بعض قشور يابسة تكونت على أطرافه المدببة.
ذات صباح في جامعة القاهرة، كنت أنظر إليها، اتمعن في ذلك الجرح الذي ما زلت أتذكره حتى الساعة، أسحب شريط ذاكرتي، أجلس على مسطبة وحيدة لا يرغب طلاب الجامعة الجلوس عليها.
كانت أمي تناديني بغير أسمي، فتارة ما تناديني لولو، وثانية لولي، وفي بعض الأحيان بـ لولية، والذى لايمت بصلة لأسمي الحقيقي، لا أسمح لغير أمي أن تناديني بإسم( نعيمة)، لا أدري لماذا يدخلني هذا الإسم فى شجار دائم مع بنات حارتنا أيام صباي؟! في صباح ممطر كنت أراقب زخات المطر من نافذة الغرفة المطلة على شقة جارتنا ذات العينين الجاحظتين، كانت أنفاسي القريبة من زجاج النافذة تطلي زجاجها البلوري، أرسم أرنبا أوثعلبا بسبابتي عليه.
ثمة فتاة تقابلني بالرسم على زجاج نافذتها، لم أكن منتبهة لرسمتها الصغيرة، أثارتني حركة أصابعها وهي تخط على لوح الزجاج، كلمات أزعجتني قليلاً، حاولت تجاهلها، لكنني لم أستطع تجاوز هذا الحنق بداخلي، كانت تملأ بدلوها بئر قلبي حقداً، كما لو أنني تمنيت أن أمسك المطر بكف وأبرحها ضربا بالأخرى، سحبت ستارة النافذة عسى أن تترك هي الأخرى نافذتها، اشتد هطول المطر بغزارة، أمسكت طرف الستارة لأنظر تحت بيتنا على أسفلت الشارع، فثمة بائع للفول يقف تحت مظلة بيت الجاحظة العينين، لم يكن ذلك الرجل واقفاً.
الصبية يترقبون ظهوري من وراء النافذة، حاولت أن ابتسم بوجهها الناعم كاقطن، لم تكن عضلات وجهي الطرية تساعدني في فتح فمي لكي ابتسم، فكرت بالنزول إلى الطابق السفلي، تذكرت أن أمي مع أبي في غرفتهما، ولن يسمحان لي بالنزول حتى لمشاهدة التلفاز في هذا الوقت تجنبا للماس الكهربائي الذي يحدث أثناء هطول الأمطار، تذكرت لعبتي في خزانة ملابسي، كانت تلك اللعبة الوحيدة التي أهداها لي خالي عندما احتفلت أمي بعيد ميلادي الخامس، كانت لعبة مسلية ومملة في نفس الوقت، ولولا أن تكرهوا حكاية الجرح لحكيت عنها أو شرحت طريقة اللعب بها.
تركت اللعبة والكلام عنها، فتحت النافذة بعد أن انقطع هطول المطر، رأيت صبايا الحارة قد نزلن إلى الشارع للعب في برك الماء، تسللت بهدوء على السلم بخطي خفيفة، أمسكت مزلاج الباب كما لو أنني لص أغتنم ليخرج من البيت غانما.
كانت صبية النافذة تنظر ليّ ذات النظرة في حرم جامعة القاهرة، كانت عيناها العسليتان توخزني كنبل سعف النخيل، لطمتني على وجهي عندما شتمت أمها ذات العينين الجاحظتين، وضعت أضافري في رقبتها الطرية اللامعة كأبريق فضة، ركضن الصبايا لذات العينين الجاحظتين، بينما صاحب عربة الفول القادم من طرف الحارة حاول أن يفك النزاع بيننا، لكن كلينا تحولتا الى قطتين بريتين.
دفعني صاحب العربة باتجاه عربته، أمسكت عصا غليظة وجدتها على سطح العربة لأهوى بها من دون رغبة في وجه الصبية. التى رحلت من حارتنا قبل خمسة عشر سنة وذلك في أول يوم من شجارنا الوحشي.
لا أدري فبعد أيام ربما ليست بالقليلة، رحت أسأل بعض زميلاتي في الحرم الجامعي عنها، فمنهن من أعربن عن أسفهن لصداقتها الحميمية، ومنهن من قلن أنها لم تعد تأت، لكن أحد أساتذة الجامعة قال لي أنها انتقلت إلى جامعة أخرى.