قبيلة كندة في الأندلس: من الصحراء العربية إلى ضفاف الوادي الكبير
أسماء صبحي – حينما عبرت جيوش المسلمين مضيق جبل طارق في بدايات القرن الثامن الميلادي كانت الأندلس في انتظار مرحلة جديدة من تاريخها. مرحلة امتزجت فيها الثقافات العربية والإسلامية مع الموروث المحلي الإسباني. وضمن هذه الملحمة التاريخية، لعبت القبائل العربية القادمة من الجزيرة دورًا مركزيًا في تشكيل هوية الأندلس. ومن أبرز هذه القبائل قبيلة كندة التي كان لها حضور سياسي وعلمي واجتماعي بارز في مختلف المراحل الأندلسية.
أصول قبيلة كندة
قبيلة كندة من القبائل العربية القحطانية وتعود جذورها إلى حضرموت في جنوب الجزيرة العربية. وعرفت منذ الجاهلية بقدرتها على توحيد القبائل المحيطة بها حيث أسست مملكة كندة التي امتد نفوذها إلى مناطق واسعة من الجزيرة. وقد اشتهرت هذه القبيلة بملوكها وشعرائها وكان لها مكانة بارزة بين العرب قبل الإسلام.
مع اتساع الدولة الإسلامية، انخرطت كِندة في الفتوحات الكبرى، وكان لها حضور في العراق والشام والمغرب. وعندما فتحت الأندلس كان من الطبيعي أن يكون لأبنائها نصيب من الاستقرار هناك.
استقرار كندة في الأندلس
وصلت جماعات من كندة إلى الأندلس ضمن جيش طارق بن زياد كما تبعتها موجات لاحقة خلال فترة حكم موسى بن نصير. واستقر الكنديون في مناطق مختلفة مثل قرطبة وإشبيلية وغرناطة كما تواجدوا في مدن الداخل مثل طليطلة ومرسية.
امتاز حضور كندة في الأندلس بمرونته وقدرته على التكيف مع طبيعة المجتمع الجديد. فقد انخرطوا في التجارة والزراعة وشاركوا في الإدارة كما تبوأ بعضهم مناصب عليا في الجيش والدولة.
التركيبة القبلية ودور كِندة
كان المجتمع الأندلسي منذ نشأته قائمًا على التوازنات القبلية بين اليمنية والقيسية. وبما أن كندة قبيلة قحطانية فقد انضمت إلى صفوف اليمنية التي شكّلت قوة كبيرة في مواجهة القيسية.
لعبت هذه التوازنات دورًا مهمًا في سياسات الحكم الأموي بالأندلس. حيث كان الخلفاء يستعينون بالقبائل لتقوية حكمهم. وقد استفادت كندة من هذه المعادلات لتعزيز نفوذها، إذ عرفت بقدرتها على تكوين تحالفات مع قبائل أخرى من اليمنيين مثل لخم وجذام.
الدور السياسي
كان لأبناء كندة دور بارز في الحياة السياسية بالأندلس، إذ شاركوا في الحروب الداخلية التي اندلعت بين الفرقاء. وفي بعض الفترات، برز منهم قادة عسكريون تولوا مناصب حساسة في الجيش الأموي.
كما ساهموا في فترات ملوك الطوائف، إذ برزت بعض الأسر الكندية التي أسست نفوذًا محليًا في مدن الجنوب الأندلسي. وجعل هذا الدور السياسي القبيلة عنصرًا مؤثرًا في موازين القوى بين الإمارات المختلفة. خاصة عندما كانت التحالفات القبلية تُحدد مصير المدن.
الدور العلمي والثقافي
لم تقتصر مساهمات كِندة على السياسة فقط، بل امتدت إلى العلم والثقافة. فقد أنجبت القبيلة علماء بارزين في الفقه واللغة والأدب. وكان لبعضهم تأثير واضح في المدارس القرطبية التي كانت مركزًا للعلم في الغرب الإسلامي.
كما كان للشعر نصيب وافر من إنتاج الكنديين في الأندلس. إذ برز منهم شعراء أعادوا إحياء تقاليد المعلقات الجاهلية ولكن بروح أندلسية تمزج بين الصحراء العربية والطبيعة الخصبة في الأندلس. وقد اعتبرت مساهماتهم رافدًا مهمًا في الحركة الأدبية التي جعلت من الأندلس مركزًا ثقافيًا مزدهرًا.
التحديات والصراعات القبلية
واجهت قبيلة كِندة تحديات كبيرة في الأندلس بسبب الصراعات المستمرة بين القبائل اليمنية والقيسية. وكثيرًا ما كانت هذه الخلافات تتفجر في أوقات ضعف الدولة، فتتحول إلى معارك تؤثر على استقرار المدن.
إلى جانب ذلك، كان على القبيلة التكيف مع التغيرات الكبرى التي شهدتها الأندلس. مثل سقوط الخلافة الأموية في قرطبة، وظهور ملوك الطوائف، ثم دخول المرابطين والموحدين. وكانت هذه التحولات تفرض على القبيلة أن تعيد تموضعها باستمرار في الخريطة السياسية.
التأثير الاجتماعي والاقتصادي
اجتماعيًا، ساعدت قبيلة كِندة في نشر اللغة العربية وتعزيز الثقافة الإسلامية بين سكان الأندلس. وقد تميزت بأنها قبيلة ذات إرث حضاري قديم، ما جعلها تحمل قيمًا ثقافية أثرت على المجتمع الجديد.
اقتصاديًا، لعب الكنديون دورًا في التجارة والزراعة، مستفيدين من خبراتهم في إدارة الأراضي. كما اشتهر بعضهم بالصناعات اليدوية التي ساعدت على تنشيط الاقتصاد المحلي، خاصة في المدن الكبرى مثل قرطبة.
قبيلة كندة بعد سقوط الأندلس
مع سقوط الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، تفرقت القبائل العربية بين من بقي سرًا محافظًا على إسلامه وبين من هاجر إلى شمال إفريقيا. وكان لأبناء كندة نصيب من هذه الهجرات إذ انتقل بعضهم إلى المغرب وتونس حيث اندمجوا في المجتمعات الجديدة.
لكن إرث كندة ظل حاضرًا في كتب التاريخ والأدب. حيث يذكر المؤرخون دورها الكبير في إثراء الحياة الأندلسية على مدى قرون.
ويقول الدكتور محمد الأنصاري، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الرباط، إن قبيلة كندة كانت من بين أهم القبائل التي ساهمت في صياغة هوية الأندلس. لقد حملت معها تجربة سياسية وحضارية من الجزيرة العربية، واستطاعت أن تدمج هذه الخبرة مع واقع جديد في إسبانيا. ولا يمكن أن ندرس تاريخ الأندلس من دون أن نعطي كندة حقها، فهي لم تكن مجرد جماعة مهاجرة بل عنصرًا أساسيًا في تكوين البنية الثقافية والسياسية للمجتمع الأندلسي.



