أسرار الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا عبر السفن التجارية وأعاد تشكيل التاريخ من جديد في القرن 14

في منتصف القرن الرابع عشر وقعت أوروبا ضحية لواحدة من أعنف الكوارث التي عرفتها البشرية، حيث دخل مرض مميت إليها دون إنذار عبر ثلاث سفن إيطالية وصلت من الصين وكانت تحمل على متنها فئرانًا موبوءة حملت معها عدوى الطاعون الأسود دون أن يدرك أحد أن هذه الكائنات الصغيرة ستتسبب في واحدة من أشرس المآسي التي مرت بها القارة العجوز والتي ستعيد رسم ملامحها بالكامل خلال سنوات قليلة.
أسرار الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا
كانت بداية المأساة في مدينة ميسينا الإيطالية حيث انتشر المرض بشكل سريع وغير متوقع نتيجة احتكاك السكان بهذه السفن وبعد أيام قليلة بدأت العدوى تجتاح مختلف مدن إيطاليا حتى غطت البلاد بأكملها وبدأت أخبار الموت تتنقل من بلدة إلى أخرى وسط عجز تام عن إيقاف انتشار المرض أو فهم أسبابه الحقيقية في تلك الفترة التي كانت تفتقر إلى التقدم الطبي.
ومع تقدم الوقت عبر الطاعون القاتل البحر إلى مدن أوروبا الكبرى وانتقل من ميناء إلى آخر ليصل إلى فرنسا وقبرص ومنها إلى إنجلترا وألمانيا حيث تسبب في سقوط أعداد هائلة من الضحايا حتى وصل عدد الوفيات إلى ما يقارب ثلث سكان القارة الأوروبية وهو ما يعادل عشرات الملايين من الأرواح التي أزهقت في سنوات معدودة دون تمييز بين غني أو فقير أو رجل أو امرأة.
يعود منشأ هذا المرض حسب ما تشير المصادر التاريخية إلى آسيا الوسطى حيث ظهرت أولى حالاته في بداية القرن الرابع عشر وتحديدًا بين عامي 1320 و1330 ثم بدأ يتحرك غربًا مع تحركات القوافل والتجارة ليصل إلى الإمبراطورية البيزنطية عبر القسطنطينية التي شهدت وفاة ما يقرب من خمسة آلاف شخص يوميًا في ذروة تفشي المرض وهو ما تسبب في حالة من الذعر والانهيار في المدن الكبرى التي لم تكن مستعدة لمواجهة هذا النوع من الكوارث.
أما مدينة فلورنسا الإيطالية فقد كانت من أكثر المدن تضررًا حيث لم تتمكن من التعافي السكاني والاقتصادي الكامل إلا بعد مرور قرون طويلة وتحديدًا في القرن التاسع عشر بينما استغرق الأمر في عموم أوروبا ما يقارب مئتي عام لاستعادة الأعداد السكانية التي كانت قبل الكارثة ويُعتقد أن عدد سكان العالم قد تراجع من حوالي أربعمئة وخمسة وسبعين مليون نسمة إلى ما يقارب ثلاثمئة وخمسين مليونًا بفعل هذا الوباء الذي غير شكل العالم للأبد.
كانت هذه الفاجعة الصحية نقطة تحول عميقة في التاريخ الأوروبي، إذ ساهمت في انهيار العديد من الأنظمة الاجتماعية والسياسية وساعدت في إعادة تشكيل نظرة الإنسان للحياة والموت والسلطة والدين وفتحت الأبواب لتحولات كبرى مهّدت لقيام عصر النهضة في وقت لاحق.



