| د. بسام أبو عبد الله يكتب:الرئيس الأسد كما يرى العالم.. الأغلبية العالمية تتشكل
| د. بسام أبو عبد الله يكتب:الرئيس الأسد كما يرى العالم.. الأغلبية العالمية تتشكل
لم يجامل وزير خارجية أبخازيا إينال أردزينبا في لقائه الفكري- السياسي مع الرئيس بشار الأسد، عندما وصفه بالشخصية التي تحدت الغرب الجماعي، واستطاع أن يحمي بلده، ويحمي المصير التاريخي لشعبه وأصالته، وهذا التوصيف ليس مجاملة دبلوماسية أبداً، بل هو توصيف علمي دقيق لزعيم عربي تعرض لأكبر حملة إعلامية- نفسية، تضليلية طوال 13 عاماً، وحتى قبل ذلك بكثير عن طريقة الترغيب بين عامي 2000- 2003، والترهيب بين عامي 2003- 2007، ومحاولات الاحتواء بين عامي 2007- 2010، ثم القرار الغربي بالهجوم الشامل على سورية ورئيسها، ونظامها السياسي باعتبار أن سورية بقيت العقبة الأخطر على مشروعهم للهيمنة، فإسقاط العقبة السورية كان يعني بالنسبة لهم محاصرة إيران ضمن حدودها، وضرب قوى المقاومة في ظهرها، وقطع طريق روسيا نحو المياه الدافئة، وكذلك مشروع الصين «حزام واحد- طريق واحد».
معضلة سورية التاريخية هي موقعها الحساس في قلب العالم القديم، والسيطرة على جغرافيتها ضرورية جداً لتطويق روسيا، والقوى الصاعدة في العالم، ومن يريد أن يعرف ذلك عليه أن يقرأ تاريخ الإمبراطوريات القديمة والحديثة ليكتشف ذلك بوضوح.
أهمية المقابلة التي هي الأولى في برنامج سياسي جديد عنوانه «الأغلبية العالمية» أنها عكست رؤية الرئيس الأسد، ليس كزعيم وطني عربي سوري، لكن رؤيته كزعيم ذي تأثير عالمي وقف في وجه مشروع الهيمنة الغربية في عز قوته وجبروته، الذي استخدم أدواته العسكرية الإجرامية ضد دول وشعوب المنطقة منذ عام 2001 بعد أحداث 11 أيلول، وهؤلاء الزعماء ليسوا كثراً في العالم، لكن صمود سورية، وحكمة وصبر رئيسها وجيشها وشعبها، لعب دوراً مهماً في تشكيل أغلبية عالمية ترفض الهيمنة الأنغلوساكسونية التي استمرت لقرون، وبالطبع موضوعياً لسنا وحدنا من فعل ذلك، لكن نحن من دفع الثمن الفعلي من دماء شهدائنا وقوت يومنا، وقاتلنا إجراماً معولماً ظهر عبر الشاشات، وعلى الأرض، وفي الاقتصاد، وكل مكان، مع ذلك يبقى السؤال كيف يرى الرئيس الأسد العالم بعد هذه السنوات العجاف وما أهم الأفكار التي تناولها في المقابلة سواء على الصعيد الوطني أم العالمي، وكذلك الشخصي، وهنا دعوني أركز على الأبرز:
1- أهمية الاعتزاز بالهوية الوطنية: إذ يرى الرئيس الأسد أن الطريق الوحيد لتدميرنا هو تحطيم الهوية الوطنية التي هي مزيج من الثقافة، القيم، العادات والتقاليد، ذلك أن أي شخصية تفقد هويتها الوطنية، وانتماءها تتحول إلى شخصية هلامية لا لون، ولا طعم، ولا رائحة لها، وسوف يصبح اهتمامها متركزاً على المال، والمال عابر للأمم وبذلك تسيطر أميركا على البلدان والسياسيين.
أي بمعنى عندما نبتعد عن قضايانا الوطنية، وقضايا شعبنا، ويصبح اهتمامنا منصباً على المال، والمصالح، والفساد، سوف نفقد الهوية، ويتحكمون بنا لأن المنظومة المالية ليست تحت تصرفنا، وإنما تحت تصرفهم، وللتدليل على هذا الأمر انظروا إلى الفاسدين أين يذهبون ويفرون عندما يضيق عليهم، أو يلاحقون، وهذا الأمر لا ينطبق على سورية فقط إنما روسيا أيضاً، حيث فرّ أغلبية هؤلاء عندما بدأت العملية الروسية الخاصة لأن مصالحهم ليست وطنية بل خارج الوطن، ومع ذلك فإن الغرب جمد أموالهم وأملاكهم على الرغم من إظهارهم الخضوع له لأنهم فقدوا هويتهم الوطنية، وقيمهم وتقاليدهم، وجذورهم المستمدة من الوطن والشعب نحو الفردانية والمصالح الأنانية المادية، باختصار أن فقدان القيادات لانتمائها الوطني، وهويتها يحولها إلى أدوات يسهل تسييرها ضد بلدها، والرئيس الأسد أكد أن مستقبل الدول يتوقف على الإرادة السياسية للحكام تحديداً.
2- الحوار مع الغرب: اختصر الرئيس الأسد هذا الملف الذي يعتقد البعض أنه بالإمكان حله بالقول إن الغرب لا يقبل أصدقاء وشركاء، بل يريد أتباعاً، ويريد من يُنفذ أوامره، ويقول نعم دائماً، فديمقراطية الغرب هي أن تقول لهم حاضر، ونعم، فهم لا يتحملون، ولا يطيقون أن تقول لهم: لا!
لكن السؤال هنا: هل نغلق الباب نهائياً؟ جواب الرئيس الأسد كان: إن الأمل موجود دائماً بالحوار، والسياسة فن الممكن، لكن هذا الحوار هدفه أن نشرح لهم بوضوح شديد أننا لن نتنازل عن حقوقنا أبداً، وأن الأساس في التعامل معنا هو المساواة.
لا يخفي الرئيس الأسد إعجابه بمنجزات الغرب الثقافية والعلمية المهمة، وهي قضية موجودة لدينا جميعاً، لكنه ليس من أولئك الذين انبهروا بالغرب بل يُقدم نظرته العلمية- الموضوعية للواقع، وفي الوقت نفسه يرى أن هذا الغرب الذي أنتج منجزات مهمة تحول لمرحلة الانحطاط السياسي، والأخلاقي وصولاً لتدمير الأسرة الخلية الأساسية في المجتمع، وعزل الإنسان، وتجريده من صفاته الإنسانية ليصبح آلة بلا مشاعر وأحاسيس وقدرة على التعبير، وهو توصيف دقيق لحقيقة ما يجري في مرحلة النيوليبرالية المتوحشة التي تشكل خطراً على مجتمعاتها والعالم أجمع.
3- النظام الدولي والتعددية القطبية: يرى الرئيس الأسد أن الأحادية القطبية التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي هي حالة شاذة تحمل تناقضاتها في بنيتها، وأوصلت العالم للفوضى بدليل أنه لم يعد هناك قواعد واضحة للتعاون بين الدول، وامتلأ العالم بالحروب والنزاعات، وأميركا تعتمد سياسة «فرق تسد» الشهيرة، وتدير الصراعات وتحولها لمرض مزمن وتنتظر اللحظة المناسبة للاستفادة منها، ليؤكد حقيقة تاريخية أنه لا أصدقاء لأميركا، ولا شركاء، بل أتباعاً، ومن كان يعتقد نفسه شريكاً اكتشف أن الأمر ليس كذلك، وأميركا تبحث عن مصالحها الخاصة فقط، لذلك هناك اضطراب وعدم انتظام في العلاقات معها.
لقد كشف الرئيس الأسد نظرته لعدد من الملفات التي كانت تخدع كثيرين منها كيفية استخدام الغرب لما يسمى المنظمات غير الحكومية كأدوات لاختراق المجتمعات تحت عناوين إنسانية، كذلك استخدام الإعلام، والفضائيات والإنترنت كأدوات جديدة، وأوضح أن هذه الأدوات يجب استخدامها لكن لا يجوز الركون لها، والاعتماد عليها، وخاصة أنه يمكن استغلالها للتضليل، والحرب النفسية، وترتيب الثورات الملونة، وتأليب الشعوب وغيرها الكثير.
في الجانب المتعلق بالتعددية القطبية كان واضحاً إشارته لدور روسيا الذي يصحح التاريخ، ويحارب الإرهاب في سورية وأوكرانيا لأنهما جبهة واحدة، وكذلك دور الصين التي قدمت أنموذجاً جديداً يجمع بين المبادئ الشيوعية، والاقتصاد الرأسمالي، من خلال دولة مركزية اجتماعية وحرية اقتصادية للشركات، واعتزاز بالهوية الوطنية، ليخلص بالقول: إن تجربة الصين أظهرت أن المبادئ الرأسمالية مهمة جداً للاقتصاد، لكن الرأسمالية كنموذج لقيادة الدولة محكوم عليه بالفشل.
التعددية القطبية يراها الرئيس الأسد اقتصادية، وثقافية، وعسكرية، وحضارية بالمجمل، وهي الحالة الطبيعية التي يجب أن تسود العالم.
4- الجوانب الشخصية: كان لافتاً ومهماً في هذه المقابلة ما طُرح على الرئيس الأسد من أسئلة شخصية قد يحب الكثيرون معرفتها عن هذا القائد الوطني والعربي الكبير ومنها:
* إنه في سن الشباب كانت الخطط والطموحات والرغبات كثيرة، لكن تقدم العمر وغنى التجربة دفعته لوضع وتحديد أولويات، ومن دون ذلك يرى الرئيس الأسد أنه لن يتم إنجاز أي شيء، وواضح هنا أنه يؤمن بأن التغيير له ظروفه الموضوعية والذاتية، ويحتاج للعمل بهدوء وتدرج من دون سياسة العلاج بالصدمات.
* لا حنين للماضي، لأن الخبرة والتجربة مع مرور الوقت جعلت الرئيس الأسد أكثر فاعلية، وهو درس مهم لجيل الشباب الصاعد.
* يرى الرئيس الأسد أن وسائل التواصل الاجتماعي هي سيف ذو حدين لأن هناك إمكانية لتدخل الآخر في الحياة الداخلية لأي بلد، وهو يخصص وقتاً لوسائل التواصل لكن ذلك ليس بديلاً عن اللقاءات المباشرة مع الناس التي تشكل النبض الحقيقي، لأن وسائل التواصل قد تخدع المرء إذ لا يمكن التكهن بها، وهل التعليقات هي حقيقية أم مفبركة؟ فالرأي العام الافتراضي لا يعكس رأي الأغلبية بل هو جزء منه، وقد يكون مفبركاً، ولذلك لمن يريد أن يعرف أكثر فإن الرئيس الأسد قالها بوضوح شديد: «لا اعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي عند اتخاذ القرارات»، وهذه رسالة من الضروري أن يعرفها أولئك الذين يقضون أوقاتهم خلف حواسيبهم يحللون ويحرمون، ويتخذون قرارات إستراتيجية نيابة عن مؤسسات الدولة، ويقدمون آرائهم، أو ينتقدون بأن هذا الأمر يُقرأ ويتابع لكنه ليس الأساس الذي تستند إليه آلية اتخاذ القرارات، فالعالم الافتراضي لا يعوض أبداً عن العالم الحقيقي الذي يجب أن نراه ونلامسه ونحسه ونعرفه عن قرب، وليس عبر الفضاء فقط.
* أما الجانب الإنساني في هذا اللقاء فإن الرئيس الأسد ازداد اهتمامه بالبرامج الحوارية، والأفلام الوثائقية، ومتابعة الأخبار أثناء الرياضة مع تقدم العمر، ويحب الموسيقا وفقاً للمزاج، وهي جوانب إنسانية وشخصية راقية، وجميلة نرغب جميعاً بمعرفتها، ليشير أخيراً إلى أن دور الأهل ليس فرض مستقبل أولادهم إنما غرس حب الوطن، واحترام تاريخ البلد، وتأمين التعليم المناسب حسبما يريد الأبناء، لأن خدمة الوطن ليست بالضرورة من خلال المسؤولية الحكومية أو العامة بل هي ممكنة في مجالات كثيرة أخرى، كما أن هذا الجيل إذا صمد في وجه الهجمة النيوليبرالية وفهم لماذا كانت الحرب حتمية علينا، فإنه سيكون ناجحاً جداً.
ما أريد قوله إن العالم يحترم الزعماء الوطنيين بغض النظر عن مساحة بلدانهم وثرواتها، فالصين استقبلت مستشار ألمانيا من خلال نائب حاكم مقاطعة ليس لأن ألمانيا ليست بلداً مهماً بل لأن أولاف شولتس لم يزر الصين كزعيم وطني ألماني يمثل مصالح شعبه بل كموفد أميركي- غربي، في حين استقبلت الصين نفسها الرئيس الأسد استقبالاً رسمياً وشعبياً كبيراً ليس لأننا بلد أغنى من ألمانيا بالطبع لا، بل لأن الرئيس الأسد زعيم وطني كبير، واجه الغرب الجماعي وحافظ على بلاده، ومصير شعبه بكل حكمة، وصبر وشجاعة، ولديه رؤية فكرية وسياسية لمستقبل بلده، والعالم.
من هنا يبرز ثمن الكرامة الوطنية والاستقلال، إنه ثمن باهظ جداً لكنه فعلاً يستحق.