د. حسن أحمد حسن يكتب:بأس إيران بين تراجيديا الكيان وكوميديا الغلمان
د. حسن أحمد حسن يكتب:بأس إيران بين تراجيديا الكيان وكوميديا الغلمان
عندما تزداد شراسة الكلاب المسعورة ترتفع نسبة الخطر على كلّ من يقف في طريقها، فغريزة عضّ الجميع مفرز طبيعي وحتميّ من مفرزات السعار المستشري في أنياب الكلاب الشاردة، أو الوحوش المفترسة المحكومة ببهيميّة تشرعن قانون الغاب حيث البقاء للأقوى والموت لكلّ من دونه وفق تسلسل زمنيّ تلعب فيه الصدفة والحظ دوراً في تأجيل الافتراس أو تسريعه، ومن الدروس المستفادة والمستخلصة من مواجهة الكلاب المسعورة أنها لا ترتدع بالصراخ، ولا بالتلويح بالعصا، غليظة كانت أم رقيقة، كما أنّ رمي الحجارة بالقرب منها، أو محاولة الهروب والركض يمنحها الفرصة السانحة لتعميم الأذى وتهديد الجميع، والاستمتاع بمواصلة العضّ للعضّ والقتل كهدف مستمرّ ومتواصل، وفي هذه الحالة يصبح لزاماً على مَن يرجو السلامة التفكير بتغيير الأدوات والوسائل لتفادي الأنياب السامّة والمخالب المحشوة ببقايا اللحم البشري الممزّق حياً، وقد أثبتت التجارب أنّ أشدّ الكلاب المسعورة شراسة سرعان ما يخفت عواؤها، ويخمد هياجها، فتطوي أذنابها وتلوي أعناقها وتهرب إذا تلقت حجراً من يد ٍتجيد تصويب حجرها، أو إذا تمكن من تحاول الاعتداء عليه من ضربها بعصاه ضربة من يثق بقدرته وحقه في دفع الأذى عن نفسه وعن غيره، وهذا ما فعلته إيران كخطوة أولى. فالردّ الإيراني على التوحّش الإسرائيلي الذي استهدف القنصلية الإسرائيلية ما هو ـــ حتى الآن ـــ إلا العصا التي هوت على عنق تل أبيب بعد أن استمرأت العربدة والإجرام والقتل والتدمير، وتحطيم كلّ السقوف ليعتاد العالم على عدوانيّتها المنفلتة من كلّ عقال، لكن ما أن وصلت العصا الإيرانية المباركة إلى عنق هذا الكيان المارق والغارق بدماء الأبرياء منذ التفكير بزرعه عنوة على تراب فلسطين حتى تغيّرت اللهجة، وسرعان ما انخفض سقف التهديدات، وابتلع الكاوبوي لسانه، وألزم كلبه المرافق له ـــ لممارسة هوايته في الصيد حيث يشاء، ووقت يريد ـــ بالكفّ عن النباح، ومتابعة تداعيات الردّ الإيراني المشروع بألم وحسرة وترقب وعجز ذاتي وموضوعي فرضته طهران بحكمة ومسؤولية واتزان ويقين بالقدرة على التعامل مع التداعيات أياً تكن. وهذا ما سيحكم مفاصل اللوحة التي ما تزال قيد التشكل، وتشمل كامل المنطقة، ولا تقتصر على الجغرافيا الفلسطينية.
ما حدث في الساعات الأولى من ليل الرابع عشر من نيسان ليس محطة عادية أو عابرة في زمن المواجهة المفتوحة منذ عقود، وما كان لـ «إسرائيل» أن تستمرّ في توحّشها وإيغالها في القتل والتدمير وحرب الإبادة الممنهجة إلا بمباركة ودعم ومشاركة مباشرة ونوعية من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة، وما كان لأيّ أسلوب آخر، أو سياسة أخرى مهادنة أو تحذيريّة أن توقظ اليانكي الأميركي من سكرة التفوق والهيمنة، ونشوة وهم القدرة على التفرّد بمصير البشريّة جمعاء. وهذا يعني أنّ للأيدي المباركة والعقول الاستراتيجية المبدعة الإيرانية فضلاً على البشرية جمعاء فيما أقدمت عليه، وأخذت على عاتقها مسؤولية لجم العربدة الصهيو ـــ أميركية. وهذا ما ستتضح معالمه وتتبلور مع مرور الوقت، ومن المبكر جداً إطلاق حكم نهائي على ثمار الردّ الإيراني وتداعياته التي خلّفها، فالكِسْرُ ما يزال ساخناً، وحجم الألم المستدام سيزداد يوماً بعد يوم، ويمكن لكل مَنْ يشكك في ذلك أن يتابع الإعلام الإسرائيلي وما يتمّ تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي ضمن التجمع الاستيطاني داخل الكيان المؤقت وخارجه من الدائرين في هذا الفلك الآسن والآثم.
المفارقة الغريبة العجيبة وغير المسبوقة تظهر بوضوح بين سرديّتين متناقضتين إحداهما تصدر من داخل الكيان الذي لما يستفق بعد من هول الصدمة والكارثة التي ألمّت به، والثانية تحكم أداء المطبّلين والمزمّرين الذين يتقنون هزّ الرؤوس بالإيجاب، وتوزيع ابتسامات صفراء مصطنعة وحبلى بالحقد الممزوج بالعجز المزمن والمتفاقم، وهم يرون سيدهم ومالك أمرهم وسرّ استمرارية عملهم النتن يئن من ألم الصفعة، ولا يستطيع أن يصرخ أو يحدّد مكان الوجع، فكلّ ما فيه موجوع ومتضرّر وينذر بالأسوأ، ولأنّ غالبية أولئك المتشدّقين أغبياء من جهة لا يرون أبعد من أنوفهم، وعبيد مأجورون يكتبون ما يُملى عليهم سرعان ما التزموا فُرادى وجماعات بكلمة السر التي وصلتهم، فأطلقوا عواءهم المشترك بالقول: الردّ الإيراني مسرحية لا أكثر، وليس مستغرباً مثل هذا القول من أمثال هؤلاء… نعم ليس مستغرباً ولا مفاجئاً، بل المستغرب أن يكون لديهم خطاب آخر. وإلى كل عشاق المقاومة وأنصار الحق والسيادة والعزة والكرامة أقول: هذا حق مشروع لأولئك، فلا تستكثروا عليهم التعبير العلني والفجّ والمفضوح عن تعاطفهم وتعاضدهم ومساندتهم لولي نعمتهم. فهم يخشون أن يدخلوا سوق البطالة إذا لفظت تل أبيب أنفاسها الأخيرة، وهم مرغمون وملزمون على تبني الخطاب الذي يصلهم والسردية التي يوكل إليهم تعميمها، فما الذي يستطيع مشغلهم قوله طالما أنّ ما يحكم الداخل الإسرائيلي ينذر بمزيد من التشظي والانقسام والضياع والقلق والاضطراب والتشوش في البصر والبصيرة…؟
نعم من حقهم أن يكذبوا على أنفسهم وعلى غيرهم. فالكذب مهنتهم، والنفاق والتضليل والخداع وتسويق الأوهام بعض مواصفات مشغّليهم وولاة أمرهم في تل أبيب وتوابعها، و»لا يُلام المرء في حب أهله»… من حقهم أن يقولوا مسرحيّة، وإذا شاؤوا أن يصفوها بأنها هزيلة وسيئة الإخراج، ومن حقنا أن نضحك من أعماقنا ونحن نقرأ خطابهم وروايتهم، ونتابع ما يقوله المسؤولون الصهاينة بما في ذلك رؤساء أجهزة استخبارات ووزراء ورؤساء وزراء سابقون وكتاب ومحللون ومؤرّخون ومفكرون صهاينة يعبّرون بوجع وحسرة عن مفاجأتهم بحجم الردّ… لا تستكثروا علينا أن نضحك من الأعماق فقد اشتقنا للضحك والشعور الحقيقيّ بالسعادة، وها هم يقدّمون لنا ذلك على طبق من ألماس حين يتحدّثون عن «مسرحية الردّ» في الوقت الذي تؤكد فيه كبريات مراكز الدراسات الإسرائيلية أن: (ليلة الردّ الإيراني كانت مهزلة استراتيجية لـ «إسرائيل») ويصل الأمر بأبرز الصحافيين الإسرائيليين «رونين بيرغمان» المقرّب من الموساد إلى القول نقلاً عن مصدر إسرائيلي مقرّب من النقاشات الجارية في مجلس الحرب بشأن إيران: (لو أذيعت النقاشات مباشرة على يوتيوب لوجدت أربعة ملايين يحتشدون في مطار بن غوريون محاولين الفرار من هنا). في حين تؤكد الخلاصة التي توصل إليها معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أنّ («إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية فشلتا على المستوى الإستراتيجي في ردع إيران عن الهجوم).
باختصار شديد يمكن القول: إننا أمام تراجيديا حقيقية ومركبة يعيشها الكيان الإسرائيلي بكل مكوّناته وعلى شتى الصعد، في حين نرى فصلاً من الكوميديا مفضوحة الأهداف والمرامي ينفذها عدد من الغلمان أو الغربان أو الصيصان أو الخصيان والعميان الذين يثبتون بفعلتهم هذه ـــ ومن حيث لا يدرون ـــ وجهاً آخر لعظمة الإنجاز الإيراني في الرد على العدوان الإسرائيلي، وما استنفار عناصر تلك الشبكات المتداخلة والمتكاملة إلا الدليل الدامغ على هلع المشغل المرتبط بتل أبيب من هول تصحيح كي الوعي والإقرار بالتأثير النوعي الذي أحدثه الفعل الإيراني على حكام تل أبيب وكل من يستظل بعباءتهم القذرة والمبللة بدماء الأبرياء. وحتى هذه التراجيديا التي يعيشها الكيان ما هي إلا باكورة ثمار إرادة المقاومة التي أعطتها سياسة حياكة السجاد الإيراني ورقعة الشطرنج التي تديرها طهران نكهة خاصة ما تزال تباشيرها الأولى تأتي تباعاً.