المزيدكتابنا

حول دمشق وباريس.. المأساة السورية في شوارع فرنسا!

حول دمشق وباريس.. المأساة السورية في شوارع فرنسا!
بقلم :د. بسام أبو عبد الله

ظلت صورة فرنسا في أذهان الكثيرين أنها إحدى الدول الأوروبية التي تتمتع باستقلال استراتيجي ارتبط باسم الجنرال شارل ديغول، وظلت الديغولية مدرسة سياسية مهمة على الصعيدين الغربي والعالمي، وهذا على الأقل ما يمكن رصده حتى ذهاب الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك نحو التحالف مع الولايات المتحدة في مرحلة جورج بوش الابن وصولاً لوقف المعارضة الفرنسية لغزو العراق، والعودة لحلف شمال الأطلسي، والتحول إلى أداة أميركية في تنفيذ مشروع الهيمنة العالمية، وهذا ما بدا واضحاً لاحقاً مع وصول الرؤساء نيكولا ساركوزي، ثم فرانسوا أولاند، والآن إيمانويل ماكرون.

فرنسا الديغولية انتهت، وجاء زمن انخراطها في مشروع ما سمي «الربيع العربي»، معتقدة أن ما وضع من أجل هذا المشروع كافٍ لإسقاط الأنظمة السياسية القائمة، وإعادة ترتيب المنطقة وفقاً للمنطق الاستعماري القديم، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وإعادة أمجاد فرنسا القديمة، وهو الأمر الذي عبر عنه وزير الخارجية الفرنسي الأسبق آلان جوبيه في نيسان 2011 أثناء محاضرة له في معهد العالم العربي في باريس، حيث شكل خطابه هذا ترجمة للتوجهات الجديدة للاتحاد الأوروبي، وفرنسا بالذات التي تعتبر دولة قائدة فيه، فماذا قال جوبيه آنذاك؟

1- إن على الغرب أن يقبل حكم الإسلاميين ما دام الأمر يتفق وإرادة الشعوب! (بالرغم أن النظام الفرنسي ينظر للمحجبات نظرة دونية، ويسخر من الرسول محمد «ص» عبر الرسوم الكاريكاتورية، ويعتبر ذلك جزءاً من الحريات).

2- يجب على فرنسا والغرب مساعدة المطالبين بالحرية على إسقاط الأنظمة القائمة ولو تطلب الأمر تدخلاً عسكرياً!

كلام جوبيه هذا سبب ردة فعل كبيرة داخل بعض الأوساط الفرنسية العاقلة خاصة في بلد يدعي أنه معقل العلمانية، والحريات في العالم! لكن جوبيه لم يكن يمثل رأيه الشخصي، بل يترجم التوجهات الإستراتيجية الجديدة التي تنسجم مع مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومع رؤية ساركوزي الذي قاد التحريض والعدوان على ليبيا لغزوها، وإسقاط حكم الراحل الرئيس معمر القذافي، كما أنه هو نفسه من قطع العلاقات مع دمشق، وأغلق السفارة فيها، وطالب الرئيس بشار الأسد بالتنحي، مكرراً كالببغاء عبارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي كان يقود مشروع «الإسلام والديمقراطية» مع شريكته ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، وكانت باريس رأس الحربة في هذا المشروع، إذ إن هذه السياسة لم تتغير في عهد فرانسوا أولاند، لا بل إن الرئيس الفرنسي في آب 2013 انتظر في غرفة العمليات لبدء العدوان الأطلسي على سورية، وسمع بخبر إلغاء العدوان من نشرات الأخبار من دون أن يعلمه أوباما بذلك.

فرنسا هذه هي التي احتضنت كل أشكال المعارضات السورية ومتصيدي الفرص، والانتهازيين، حيث دعمت ما سمي مجلساً وطنياً سورياً، كتكرار للنموذج الليبي، وفرضت برهان غليون مواطنها الذي يحمل الجنسية الفرنسية رئيساً له، وشاركت في كل قرارات مجلس الأمن الدولي، وشكلت رأس الحربة في الحرب على سورية وشعبها، ومحاصرته وتجويعه.

فرنسا هذه استخدمت شركة «لافارج» غطاء لتشكيل شبكات التجسس في سورية، وتمويل داعش، واستخدمت فراس طلاس رئيساً لهذه الشبكة التجسسية، حيث اعترف في فيلم وثائقي أنه كان يعمل لمصلحة أجهزة الاستخبارات الفرنسية، والغربية، ويبيع المعلومات لهم مقابل المال.

حاول الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون تعديل هذه السياسات الفاشلة التي حولت فرنسا إلى ملحق تابع، وصغير للولايات المتحدة عندما قال لصحف أوروبية مع بداية ولايته الأولى إنه لا بديل شرعياً للرئيس بشار الأسد، وإن رحيله لم يعد شرطاً فرنسياً مسبقاً، كما أن الرئيس الأسد ليس عدواً لفرنسا، وأولوية فرنسا هي الالتزام بمحاربة الإرهاب، وضمان ألا تصبح سورية دولة فاشلة! لكن هذه المقاربة وُوجهت بتيار متطرف أبقى السياسة الفرنسية على حالها كرأس الحربة في تشديد الحصار والعقوبات على سورية وشعبها بعد فشل المشروع الذي روّج له جوبيه في نيسان 2011.

الآن ما الذي تكشفه لنا الأحداث التي تشهدها فرنسا منذ أسبوع؟ لنطرح الأسئلة التي يجب أن يواجهها القادة الفرنسيون من دون مكابرة واستعلاء وعجرفة باتجاه العودة والهبوط من أعلى الشجرة التي جلسوا عليها، وسأشير هنا لثلاث قضايا هامة:

1- قال وزير العدل الفرنسي إن الحكومة الفرنسية ستصل إلى أولئك الذين يحرضون على منصات التواصل الاجتماعي، وتعاقبهم!

جميل هذا الكلام، أي إنه من حق أي دولة في العالم، فرنسا أو غيرها، أن تعتبر أي تحريض على ضرب الاستقرار والأمن وتهديد السلم الأهلي جريمة يعاقب عليها القانون! والسؤال هنا: لماذا اعتبرتم وسائل التواصل الاجتماعي في الحالة السورية وليس الفرنسية، شكلاً من أشكال الحرية، بالرغم من أن هذه المنصات تحولت إلى وسائل للتحريض، والقتل، والإجرام، ونشر التطرف؟ وهذا السؤال برسم وزير العدل الفرنسي!

2- لقد اعتبرت الحكومة الفرنسية أن الإحراق والاعتداء على المنشآت العامة والخاصة، جريمة يعاقب عليها القانون!

هذا أمر نتفق فيه تماماً مع الحكومة الفرنسية إذ لا يحق لأي إنسان مهما كانت مطالبه، أن يعبر عنها من خلال القتل والحرق، وتدمير الأملاك العامة والخاصة! والسؤال هنا: لماذا اعتبرتم ما قام به الإرهابيون في سورية من أعمال إجرامية عبر استهداف المنشآت الحيوية والمدارس والجامعات والكنائس والجوامع والاغتيال والقتل، شكلاً من أشكال التعبير عن الحرية، والثورة ضد نظام قمعي- استبدادي وفق وصفكم؟ بينما لا ترون ما حصل في شوارع مدنكم تعبيراً عن نظام عنصري- استعلائي وتعبيراً عن الثورة والحرية في بلادكم!

3- لقد أشار الكثير من الوزراء في الحكومة الفرنسية إلى أهمية، ودور الأسرة في التربية والانتماء، وصرح العديد منهم بأنه لا يحق لأي مراهق النزول إلى الشوارع من دون أحد والديه! وهذا أمر أدركتم أهميته بعد فوات الأوان، وبعد أن رخصتم لقيم الليبرالية الجديدة في الشذوذ الجنسي، وتدمير دور الأسرة، والعادات والتقاليد، ونشر نظام التفاهة وفقاً للبروفسور الكندي آلان دونو.

إن هذه الملاحظات الثلاث التي أشرت إليها هي غيض من فيض ما يمكن الكتابة عنه، ليس فقط لأننا نريد الشماتة بفرنسا وسياستها الحمقاء طوال 13 عاماً، فهذه القيمة ليست ضمن قيمنا، ولكن ليدرك الساسة الفرنسيون مجموعة خلاصات ضرورية لابد من قراءتها بعناية:

1- إن العالم يتغير، ويتبدل بسرعة، وسورية البلد الذي ساهمتم بمحاولة تدمير نسيجه الاجتماعي، ونشر أفكار تتناقض تماماً مع ما تدعون ليل نهار حول العلمانية والحريات، أثبتت أنها ما تزال على إرثها الحضاري الغني والثري، وأن ما أصابها من كارثة لن يغير في قناعات شعبها ومسلماته الوطنية.

2- إن مراجعة جدية للسياسات الفرنسية هي أكثر من مطلوبة، إذ لا تستطيع فرنسا الاستمرار بعقلية النعامة بعد هذا الفشل الذريع وبعد انكشاف الوجه القبيح للسياسات القديمة التي أظهرت سقوطاً مريعاً أخلاقياً وإستراتيجياً، ولأن قول الحقائق وكشفها يبدو صعباً في هذا الزمن السيّئ لكنه ضروري سواءً صدرت منا أم من شخصيات فرنسية مثل السفير الفرنسي السابق ميشال ريمبو الذي نشرت له صحيفة «الوطن» السورية مقالاً هاماً حول رحلته لدمشق ينصح فيه الحكومة الفرنسية بمراجعة مواقفها قبل فوات الأوان.

3- إن سياسة الوعظ والهندسة الاجتماعية للدول والشعوب، التي نظَّر لها مجموعة من المفكرين المهووسين بفكرة «صراع الحضارات» سقطت أمام حرص الشعوب في قارات العالم على قيمها وإرثها وعاداتها وتقاليدها، ووجودها الإنساني، ورفضها سياسات الاستعلاء والتنظير، وفرض القيم الشاذة التي يعمل على نشرها مجموعة من المعولمين أصحاب نظريات الهيمنة.

العالم يتحول بسرعة، وفرنسا وغيرها تسقط وتنكشف سياساتها، وقبح ما ارتكبت بحق سورية والسوريين.

انظروا إلى شوارعكم، وسلوك مواطنيكم، وعنصرية شرطتكم، وتصريحات مسؤوليكم لتعرفوا أكثر أن عليكم التخلص من ازدواجية الشخصية التي تعيشونها وتتوقفوا عن الاعتقاد أنكم بشر من صنف آخر، ألم يقل ماكرون لكم إن عصر الهيمنة الغربية قد انتهى.

وإذا كان قد شارف على النهاية فهذا يعني سياسات جديدة، ومقاربات مختلفة، والخلاصات التي يمكن الاستفادة فيها من المأساة السورية كثيرة وعديدة، ونحن مستعدون لإعطائكم الدروس والعبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى