المزيد

سورية وألغام الاستراتيجية الأميركية

سورية وألغام الاستراتيجية الأميركية

 

 

بقلم د حسن احمد حسن باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية

يدرك المتابع المدقق في مفردات الخطاب الإعلامي الأميركي أنه عندما يتمّ التركيز على عبارات بعينها تتكرّر في تصريحات بعض المسؤولين أو عبر وسائل الإعلام المختلفة، فهذا يعني أنه تمّ انتقاء تلك المفردات والمصطلحات بدقة وخبث ودهاء، وليس من قبيل الصدفة أن يتمّ تكرارها ممن يظهرون على الشاشات كخبراء ومحللين وأساتذة جامعات إلى درجة تكاد الكلمات تتطابق وبخاصة ما يتعلق ببعض المفاهيم والمصطلحات التي يتمّ تسويقها والتشديد عليها بهدف الاستيطان المريح في ذاكرة المتلقي وقد تصبح ضمن مصفوفة المسلمات، أيّ قد يستخدمها ويستشهد بها في حواراته أو في ما يكتب من دراسات وقراءات لأيّ أمر له علاقة بشكل مباشر أو غير مباشر بتلك المفاهيم والمصطلحات. وهنا تكمن الخطورة، فأقصى ما يريده المشتغلون الأميركيون بمفاصل صنع القرار، وبخاصة في مجال «كي الوعي» والحرب على الأفكار أن يتمّ اعتماد هذا المصطلح أو ذاك من دون التوقف عند مضامينه ودلالاته، واكتفي بالاستشهاد بعنوان واحد يتعلق بالتركيز على تعامل واشنطن مع الدولة السورية بشكل ضبابي لأنه ـ وفق ما يقولونه ـ ليس لدى واشنطن «استراتيجية تجاه سورية» وبتكرار مثل هذا الكلام واعتماده على أنه حقيقة وجزء مما نبني عليه دراساتنا وتحليلاتنا نقدّم للسياسة الأميركية خدمة جليلة من حيث ندري أو لا ندري. ومن المفيد هنا التوقف عند مجموعة من النقاط والأفكار التي قد تساعد على توضيح الصورة أكثر لتكون أقرب لفهم المقصود، ومنها:

*الولايات المتحدة الأميركية ما تزال القوة الأعظم عالمياً، وحيثما حلت قواتها، أو أقامت قواعد لجنودها. فالمنتظر لا يمكن أن يكون خيراً قط، بل المزيد من الموت والدمار والأخطار والكوارث والويلات والفتنة والتشرّد والاقتتال والفقر والجوع، وكلّ مفرزات السوء في أحدث طبعاته. ومن غير المعقول موضوعياً أن تكون إمبراطورية للشر كهذه تتعامل بلا استراتيجية، لأنّ غياب الاستراتيجية يعني التعامل بسذاجة وعفوية وردود أفعال آنية تجاه أي طرف آخر. وتكفي إضافة صفة الأميركي لأيّ مفردة لتصبح حبلى بكلّ الإرث البغيض لبلاد العم سام، وما تسبّبت به من كوارث وويلات ومصائب في أيّ مكان وطأته أقدام جنودها أو جنود أتباعها تحت أي مسمّى في شتى أصقاع المعمورة، وهذه بحدّ ذاتها مكونات أساسية في الاستراتيجية الأميركية.

*استقدام الأساطيل والجحافل والجيوش واحتلال أجزاء من أراضي دولة مستقلة ذات سيادة بالقوة، وبما يتناقض والقانون الدولي يؤكد أنّ وجودها الاحتلالي ليس صدفة، وأنّ إصرارها على استمراره يعني أنها تتبنى استراتيجية احتلالية، والضرب عرض الحائط بالقانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة، ولا توجد استراتيجية عرفتها الدول أوضح وأفضح من استراتيجية الاحتلال بكلّ مفرزاتها، وما تخبّئه في تلافيف ما تسمّيه «الغموض البناء» من عوامل هدم وأخطار وتهديدات تواجه الدول وشعوبها، وتتمدّد على حساب مصالحها، والأمن الوطني والقومي لكلّ منها.

*تجاهل جريمة الاحتلال القائم وتسويق الذات حامية للديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب الذي يعترف كبار المسؤولين الأميركيين بأنه صناعتهم الخاصة، وبراءة اختراعه ممهورة ببصمة الإدارات الأميركية المتعاقبة، فهذا يؤكد أنّ واشنطن حاربت بداعش وبقية مكونات الإرهاب التكفيري، ولم تحاربه قط، ولولا الصمود الإعجازي للدولة السورية بمساعدة الأشقاء والحلفاء والأصدقاء الأوفياء لكان الإرهاب المصنع أميركياً منتشراً، ويهدّد كلّ العواصم التي لا تذعن لعربدات صناع القرار الأميركي، أيّ أنّ أميركا تمتهن التضليل، وتتبنّى أقذر أنواع الحروب المركبة بما فيها الحرب على الوعي والعمل على كيّهِ بعد اختراق العقول وتشويه الأفكار وتسميم طرائق التفكير والقناعات التي تحدّد طرائق السلوك. وهذا بدوره جزء أساسي ومركب يدخل في قوام الاستراتيجية الأميركية العدائية بطبعها ومنطلقاتها ومآلاتها.

*قد يكون النقض الكلي للرواية التي يتمّ تسويقها أميركياً مجافياً للصواب، وقد يكون تبنّيها كما هي مجافياً أكثر، وبالتالي من المهمّ التوقف عند مكوناتها والتدقيق في تلك التفاصيل التي يطيب للإبليس الأميركي المقيم بين منحنياتها مطمئناً إلى أنّ ما يريد بلوغه يتمّ وفق ما خطط له، ويسير بيسر وسهولة ومن دون أية منغصات، أو عراقيل وحواجز تكشف ما توارى واستتر. وهنا تصبح الكتابة مسؤولية إنسانية وأخلاقية ووطنية، فضلاً عن كونها واجباً مقدساً على كلّ من يستطيع تأديته طواعية من دون أن ينتظر أحداً ليطلب منه الكتابة.

*لا يصحّ التسليم بمقولة إنّ الولايات المتحدة الأميركية التي تفرّدت بالقرار الدولي لعقود يمكن أن تتورّط في تداعيات حرب لا تعرف مدخلاتها ولا مخرجاتها ـ على الأقلّ ـ بشكل تقريبي خاضع لحسابات قد لا تُصيب دائماً، لكنها تُحَدَّدُ وتعتمد قبل التنفيذ، وما تأكيد المسؤولين الأميركيين على بقائهم في سورية، وعدم خروجهم إلى أن يتمّ القضاء على داعش إلا إقرار بالهدف الأكبر المحدّد سلفاً، لأنّ تلك التصريحات تعني أنهم لن يخرجوا قط إلا مرغمين، لأنّ داعش هو صنف من قوات المارينز الأميركية، وكلّ القرائن تؤكد أنّ واشنطن بعد أن فشلت في تحقيق أهداف استراتيجيتها العدوانية بالعسكرة تسعى بكلّ السبل لحرمان الدولة السورية شعباً وجيشاً وقيادة من التعافي. وبالتالي العمود الفقري في استراتيجيها العملية يتمثل بالحفاظ على الستاتيكو المفروض القائم لضمان بقاء وجودها الاحتلاليّ أطول فترة ممكنة.

*بقاء الاحتلال الأميركي تحت أيّ عنوان، وبأيّ صيغة كانت يعني استمرار حرمان الشعب السوري من ثرواته النفطية والزراعية والتضييق عليه أكثر فأكثر لفرض خيارات رفضها رغم التكلفة الباهظة التي لا يزال يدفعها جراء الحرب المفروضة عليه. وهذا جزء من استراتيجية الاحتلال ونهب الثروات بالقوة، مع إمكانية الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخطر وفق ما يسمح به تطور الأحداث وتداعياتها، وهذا بدوره يساهم في إبقاء المنطقة متوترة ومضطربة وقابلة للانفجار جراء أي انزياح في ضبط وتيرة الاشتباك غير المسبوق على المستويات المختلفة داخلياً وإقليمياً ودولياً، ووفق محددات ومتطلبات الاستراتيجية الأميركية المعتمدة والمعلنة رسمياً.

*الأهمّ من كلّ ما ذكر، وأخطر ما في الأمر أنّ القول: «لا توجد استراتيجية أميركية واضحة» يصبّ في صلب الفوضى الخلاقة التي تحتلّ مركز الصدارة في الاستراتيجية الأميركية العدوانيّة تجاه الجميع بمن في ذلك من يحسبون أنفسهم أصدقاء وحلفاء لأميركا التي لا تنظر إلى أيّ منهم إلا على أنه تابع وصاحب دور وظيفي عليه أن يؤدّيه بدقة واندفاع، مع توقع القذف به من العربة الأميركية عند أيّ منعطف، والصلف الأميركي لا يقيم وزناً لقناعة كلّ الأتباع وعلى مختلف أوزانهم الجيوبوليتكية بحتمية تخلي واشنطن عنهم في الوقت الذي تحدّده، ومن دون إنذار مسبق.

*مجرد السكوت عن تداول مصطلح «لا يوجد استراتيجية أميركية تجاه سورية» يعني مساعدة مفاصل صنع القرار الأميركي في عدوانيتهم، لأنّ تكرار المصطلح من قبل أيّ شخص معروف عبر وسائل الإعلام يؤدّي إلى تسويق اطمئنان خادع يترتب على ذلك. وعلى ذاك الاطمئنان الخادع يرسم المشرفون على اجتياح العقول معالم الخطوة التالية التي تخدم أهداف استراتيجيتهم التي ينكرون وجودها. ومن المهمّ أن تقود هذه الحقيقة إلى تلافي الجدل المتكرّر بين من يتسلحون بنظرية المؤامرة، وآخرين يستعيضون عنها بجلد الذات، والتمتع بلعب دور الضحية، وكأننا ما زلنا في الإرهاصات الأولى التي تسبق الحرب. فالموضوع تجاوز المؤامرة بمراحل، ومن الطبيعي أن يتآمر العدو على عدوه، والردّ يكون بتوقع الأسوأ وإعداد مستلزمات السيناريو الأكثر سوءاً في حال حدوثه، وليس الاكتفاء بالحديث عن تآمر ومؤامرة، وبخاصة أنّ أعداءنا أصحاب خبرة متراكمة، ولا يدّخرون جهداً بكل السبل المشروعة وغير المشروعة لكسر إرادة هذا المحور المقاوم الذي استطاع أن يقول «لا» للقوة الطاغية الأكبر في العالم، واستطاع أن يفرض قواعد اشتباك تفقد أنصار القوة والهيمنة ما كانوا يخيفون به العالم أجمع. ولمن يشكك في صحة ذلك أن يتابع الإعلام الإسرائيلي المعادي والمأزوم كقادة الكيان وجنوده ومستوطنيه جراء السقوف الجديدة التي يرفعها حزب الله ويفرضها على الحكومة الأكثر عنصرية ووحشية في تاريخ الكيان الغاصب.

خلاصة

دورة صنع القرار الأميركي معقدة ومتشابكة أكثر مما قد يخطر على الذهن، وعندما يتمّ التستر عن العام والخاص في استراتيجية أميركية مقررة تجاه هذا البلد أو ذاك، فهذا يعني أنّ تلك الاستراتيجية المعتمدة مصنفة ضمن الأكثر خطورة وأهمية، مع الأخذ بالحسبان إمكانية التعثر، ويصعب على الأميركيين الاعتراف بتعثر أو تراجع أو خطأ في الحسابات، ولذا يكابرون ويناورون، ويعيدون ترميم أماكن العطب التي تصيب سياستهم أثناء التنفيذ، وما إنكار وجود «استراتيجية أميركية» تجاه سورية إلا خطوة استباقية للتعامل مع نسب مرتفعة للفشل والإخفاق بعد التيقن من اقتراب موعد إرغام قوات التحالف المحتلة بزعامة واشنطن على الخروج القسري. وما تسعير ألسنة اللهب في الشرق والشمال الشرقي والشمال الغرب والجنوب السوري بآن معاً، وبالتزامن مع اشتداد الاستعصاء على الساحة الأوكرانية إلا فقرة أساسية في الاستراتيجية الأميركية المعتمدة لتأجيل إعلان نصر محور المقاومة ومن معه، وتأخير موعد الخروج من المنطقة أطول فترة ممكنة، وغالبية القرائن الدالة تشير إلى أنها لن تطول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى