حوارات و تقارير
“أوتوفار” أيقونة السيارات الروسية تصارع من أجل البقاء بعد العقوبات الغربية القاسية
دعاء رحيل
أدت العقوبات الغربية الشديدة على روسيا بأزمات حادة على كثير من القطاعات الصناعية في البلاد، وطالت قائمتها -الأطول في تاريخ العلاقات الدولية- بشكل مباشر قطاع تصنيع السيارات، وعلى رأسها “أوتوفاز” (AvtoVAZ)، أيقونة مصانع السيارات الروسية وأكثرها عراقة والشهيرة على مستوى العالم بعلامتها التجارية “لادا” (Lada).
كما أدت العقوبات، فقد بقي الآن 4 مصانع فقط تعمل في روسيا، وهي “غاز” (GAZ) و “يو إيه زد” (UAZ) في أوليانوفسك، و “مازذا سترولرز” (Mazda Sollers) في فلاديفوستوك (صغير، وينتج القليل جدا من السيارات) و”هافال” (Haval) الصينية في منطقة تولا.
أما بقية الشركات الأجنبية، فإما أنها تركت السوق الروسية بالكامل، أو أوقفت شحن السيارات من أجل تحديد قيمتها الجديدة على ضوء نمو أسعار الدولار واليورو مقابل العملية المحلية.
ولامست هذه الأزمة بشكل أكثر حدية مصانع السيارات الكبيرة الموجودة في روسيا، وعلى رأسها “أوتوفاز”، فخلال الأسابيع القليلة الماضية وصلت الشركة إلى حالة التوقف الكامل عن تصنيع وتجميع السيارات بسبب النقص في المكونات الإلكترونية، وتمزق سلاسل التوريد.
وببساطة شديدة، لم يعد عندها ما تصنعه، خصوصا مع توقف شركة “بوش” (Bosch)، المورد الرئيسي للإلكترونيات الدقيقة عن العمل في روسيا.
نداء استغاثة
وأمام التحدي الكبير، بدأ عملاق السيارات في البحث عن موردين لقطع الغيار والمكونات من الدول الآسيوية، وابتداء من الأول من مارس/آذار الماضي رفعت الشركة الأسعار بنسبة 10-20%، كما وجهت إلى الحكومة نداء عاجلا للتدخل وطلب الدعم.
فضلا عن ذلك، أجبرت توقعات العجز إدارة “أوتوفاز” على التخطيط للانتقال إلى أسبوع العمل بدوام جزئي، ودفع اليوم الخامس من أسبوع العمل من الميزانية الفدرالية.
وما زاد من حدة الأزمة، إعلان شركة رينو تعليق مصنع العاصمة، ومن المعروف أن تحالف رينو ونيسان يمتلك 68% من أسهمها.
ومع ذلك، يقول خبراء إنه حتى في أكثر السيناريوهات تشاؤما، فإن الدولة لن تترك مصنع السيارات في تولياتي من دون دعم، لا سيما مع التهديد المتمثل بوقف رينو لأنشطتها في روسيا، والتي أعلنت أنها اتخذت جميع الإجراءات اللازمة للامتثال للعقوبات الدولية، وبدأت ببيع حصتها تدريجيا في الأسوق الروسية.
صراع من أجل البقاء
في كل الأحوال، قد تحتاج “أوتوفاز” إلى أشهر طويلة للعودة إلى إنتاج الطرازات الأقل اعتمادا على قطع الغيار والمكونات الإلكترونية الأجنبية، الشيء الذي يتطلب بطبيعة الحال، اعتماد موردين جدد لها، وبهذا الشكل، فإن الشركة على أعتاب الدخول في أكثر مراحل تاريخها تعقيدا للبقاء، واستعادة المجد الغابر.
وفي ستينيات القرن الماضي عانى قطاع إنتاج السيارات في الاتحاد السوفياتي من نقص هائل، وحينها كان يتم توزيع سيارات “بوبيدا” (Pobeda) و”فولغا” (volga) و”موسكفيتش” (Moskvitch) و “زابوروجيتس” حصريا وفقا لقوائم الشركات، وفي أغلب الأحيان كان يتم شراؤها في مكان العمل فقط، ومن خلال القرعة أو السحب.
وفي 20 يوليو 1966، وبعد تحليل 54 موقعا مختلفا للبناء، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والحكومة السوفياتية بناء مصنع سيارات كبير جديد في مدينة تولياتي.
ومن المفارقات أن عملاق السيارات السوفياتي تأسس في المدينة التي سميت على اسم زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي، بالميرو تولياتي، بعد وفاته في شبه جزيرة القرم عام 1964.
وفي روسيا يقال إنه حتى القطط الضالة سمعت عن مدينة تولياتي، مسقط رأس سيارة لادا، وحتى منتصف الستينيات، كان سكان تولياتي في الواقع من سكان ستافروبول على نهر الفولغا، قبل أن تتم إضافة اسم النهر إلى اسم المدينة حتى لا يتم الخلط بينها وبين ستافروبول الموجودة في شمال القوقاز، ولكن في أغسطس/آب 1964، تم تغيير اسم المدينة إلى تولياتي، تكريما للزعيم الراحل للحزب الشيوعي الإيطالي، بالميرو تولياتي.
ومن هذه المدينة بدأ تاريخ السيارة الأكثر شهرة في تاريخ الاتحاد السوفياتي السابق، والتي لم تغب الاعتبارات السياسية عن تاريخ تشييده (في ذكرى مرور 100 عام على ولادة مؤسس الدولة السوفياتية فلاديمير لينين)، وحتى على اختيار شكل ومواصفات السيارة (الصندوق) اللذين رافقاها لعشرات السنين.
ورغم أن أعين المهندسين السوفيات آنذاك وقعت على سيارة “رينو 16” الفرنسية لتكون النموذج الأم للسيارة السوفياتية القادمة، نظرا لحداثتها في بعض الجوانب، كالدفع بالعجلات الأمامية، والرأس المعدني، وهيكل هاتشباك العملي، إلا أن الاختيار وقع مع ذلك على شركة “فيات” الإيطالية.
ولأسباب سياسية لم يذهب العقد إلى باريس، وانقلب العطاء لفيات عندما حسم الأمين العام للحزب الشيوعي آنذاك ليونيد بريجنيف الأمر بعباراته الشهيرة “أيها الرفاق المهندسون، توقفوا عن التعامل مع التكنولوجيا، سنتعامل مع السياسة.. إيطاليا أقرب إلينا من فرنسا”.
اسم خادش للحياء
إن الاسم الحقيقي للسيارة الجديدة هو “جيغولي” وليس “لادا”، كما هو معروف في العالم، وتعود إلى جبال جيغولي الواقعة على الضفة اليمنى لنهر الفولغا غير البعيد عن مدينة سامارا.
لكن التسمية الروسية لم تكن لائقة بالنسبة لخصائص النطق في معظم البلدان الأوروبية، بل وفاحشة في بعض اللغات، كالهنغارية والفرنسية، لذا، تم في العام 1975 إعادة تسمية جميع السيارات المصدرة باسم لادا.
ولكن حتى مع كلمة لادا أخطأ المسوقون في التقدير، ففي فرنسا، أصبح طراز السيارة مرادفا لكلمة (ladre)، والتي تعني اللئيم أو الجشع.
في بؤرة حرب العصابات
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدا أن “أفتوفاز” هي المؤسسة الوحيدة في البلاد التي تصنع المنتجات التي يحتاجها الجميع، وكانت مختلف الجماعات الإجرامية المنظمة تتحارب فيما بينها على سرقة السيارات أو شرائها بأسعار منخفضة، فوجد المصنع نفسه في بؤرة حرب العصابات، ودخل -كما مدينة تولياتي بكاملها- في متاهات تصفية الحسابات لتحقيق حلم السيطرة على المصنع.
وفي البداية لم تستطع هذه العصابات اختراق المصنع نفسه، لكنها وضعت أيديها على متجر قطع الغيار التابعة له وقنوات توريدها، فتحكمت بحجم الإنتاج والأسعار وجهات البيع، قبل أن تندلع حرب دامية بين هذه المجموعات، قتل نتيجتها نحو 400 شخص.
أما اللحظة التاريخية فبدأت بعد تمكن إحدى العصابات المنظمة من الوصول إلى ما كان يسمى “حظيرة” المصنع، وبدأ “اللصوص” بالحصول على نسبة من المبيعات، حيث قدر دخلهم من 10% إلى 20% من إجمالي الأرباح.
كما طالت الإتاوات الشركات الوسيطة التي كانت تعمل في بيع سيارات بأسعار تفضيلية، بعد أن أصبحت مثيرة للاهتمام بالنسبة للمبتزين الذين فرضوا عليها الرسوم.
ونتيجة حرب دامية وطويلة مع هذه العصابات قامت بها الأجهزة الأمنية، أعيد المصنع إلى سابق عهده، وصمد بوجه الأزمة الاقتصادية التي مرت بها البلاد في تسعينيات القرن الماضي، وتكللت في نهاية المطاف باستحواذ شركة السيارات الفرنسية العملاقة رينو على المصنع.
ولم تمر سنوات قليلة حتى دخلت الشركة مجددا في حالة انكماش وعدم تحقيق أرباح مقنعة بسبب ضعف القدرة التنافسية، رغم استحواذها على حوالي 20% من سوق السيارات المحلية، ومع وصول سيف العقوبات إلى “رقبتها” فقد أصبح من حكم المؤكد أن الرهان على زيادة معدلات التصدير لزيادة الأرباح أصبح أمرا شبه محال