د. صلاح سلام يكتب…
الأوبن بوفيه وفتاوى آخر الليل
منذ قرابة عقدين من الزمن كنت أؤدي عمرة العشر الأخيرة من رمضان، وكم كانت جميلة تلك الأيام رغم الزحام الشديد. والتقيت في صلاة التهجد بصديق لي وهو أحد رجال الأعمال، وأصر على أن أذهب معه للسحور وكان نزيلا بفندق هيلتون بأبراج مكة، وقتها كان هذا أفخم وأقرب مكان للحرم. وجمعتنا طاولة السحور مع الشيخ الذي وقف منذ فترة للشهادة أمام المحكمة والذي كان ينزل في نفس الفندق، وبالطبع كان الطعام “بوفيه مفتوح” وليس كالفنادق التي ننزل فيها نحن معشر الطبقة الكادحة.. ولاح لي سؤال أثناء تناول السحور الذي احتوى على كل ما لذ وطاب.. فسألت الشيخ: ما حكم البوفيه المفتوح وأصنافه المتعددة وبوفيه الحلويات والفواكه المتنوعة ونحن أتينا طائعين صاغرين لله في أيام مباركات نرجو الصفح والغفران وسواء السبيل، وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يستكثر على نفسه صنفين من الطعام “ويحك يا حفص خل وزيت”؟. فرد عليّ فضيلته يا دكتور “كل ما شئت المهم تربط على بطنك وتقيم الليل”، فرددت: “يا شيخنا وهل هناك أحد في الحرم وجواره وربما في مكة والمدينة لا يقوم الليل؟ نحن نفرغ من الإفطار في الحرم على التمر والرايب ونبقى حتى صلاة القيام ثم نتناول بعدها الإفطار في السكن ونستريح قليلا أو نتسوق، فتأتي صلاة التهجد فالسحور ثم صلاة الفجر.. فمن أكل طبق فول مع عيش التميس مثلما الذي أكل في البوفيه المفتوح وكلاهما يقيم الليل!!!!!…فتدخل صديقي في الحديث ليسأله: يا مولانا كيف يستطيع الواحد أن يتزوج على زوجته دون أن يغضبها وأنت صاحب تجربة كبيرة فاوصف لنا روشتة نستطيع اتباعها.. فردّ كالآتي: إنني تزوجت خمس مرات والآن على ذمتي أربعة .. وهن يعشن في منزل واحد ولا يوجد به تليفزيون.. فهو ممنوع من دخول المنزل.. إذن كيف يقضين أوقاتهن؟ فأجاب أنهن يتسابقن في طاعة الله وحفظ القرآن.
هذا كان الرد.. وطبعا الوصفة صعبة والتطبيق أصعب.. وما جعلني أستدعي ملابسات تلك الليلة.. هو مثول الشيخ للشهادة أمام المحكمة وإنكار أنه داعية وأنه شيخ وأنه لا يحمل إلا دبلوم معلمين وأنه لم يفتِ بالجهاد أو بغيره.. مع أننا نتذكر جيدا خطابه يوم استفتاء ١٩مارس ٢٠١١ بعد ثورة يناير، على الإعلان الدستوري والذي كنا نحاول إقناعهم بأننا نريد صياغة دستور جديد ولكنهم كانوا في عجلة من أمرهم وكانت لجنة الصياغة طوع هواهم.. وشحنوا كل أنصارهم وحققوا أغلبية، لأن معظم الشعب كان لا يزال مخدوعا .. يومها خرج ليعلن أنهم انتصروا في “غزوة الصناديق” وأن البلد بلدهم واللي مش عاجبه يرحل.. كل هذه المقاطع موجودة على اليوتيوب وكان التحرش بالإخوة الأقباط على أشده.. بل بالمسلمين الذين لا ينتمون إلى أفكارهم الإخوانية أو السلفية.. وقال بيننا وبينكم الجنائز وهي مقولة الإمام أحمد بن حنبل مخاطبا أهل البدع .. ولم أفهم وقتها هل كان يقصد القدرة على حشد الناس .. أم أنه كلما زاد عدد المشيعين فذاك دليل على صلاح المتوفي، وهذا ما كان يعنيه الإمام ابن حنبل بالفعل.. وإذا كان يقصد ذلك فما رأيهم ورأيكم أيضا في جنازة الزعيم عبد الناصر الذي ودعه خمسة ملايين شخص.. وقد كانوا ” الإخوان وأتباعهم” ينعتوه بكل صفات الكفر والضلال.. أليس قولك يا شيخ يعتبر حجة عليك وعلى كل أتباعك ومحبيك الذين تبرأت منهم وأن الرجل رحمه الله كان لا يستحق منكم كل هذا التشويه، وأن الله قد أنصفه حتى في جنازته.
هذا الموقف أمام المحكمة يلخص حكاية شباب تمت السيطرة على عقله وشحنه بأفكار هادمة قد تحرق وطنه ولا مانع لديهم من ذلك.. والمهم أن يظل ولاؤه لشيوخه حتى لو دفع حياته أو حرق وطنه، فهم قد أعطوه صكوك دخول الجنة.. ويحضرني ذاك الرجل الذي قتل الكاتب والمفكر فرج فودة عندما سأله القاضي هل تعرف الرجل؟ فقال لا .. لماذا إذن قتلته؟.. قال أفتوا لي بأنه كافر. برغم أنه لم يقرأ سطرا مما كتبه د.فرج.. وتتوالى الحكايات ففي قضية مقتل الزعيم السادات الذي حقق أول انتصار حقيقي لمصر والعرب على إسرائيل والذي استعاد بقية سيناء بدون قطرة دم.. فقد قال المرحوم نبيل نعيم وبعض من الذين شاركوا في الإفتاء بقتله: إننا كنا على خطأ ولو عاد بنا الزمن لما فعلنا ذلك.. نستخلص من هذا أن هناك ثمة شيء يتم فهمه بطريقة خاطئة.. فلا يمكن الاعتماد على النقل والقياس بالمفاهيم القديمة، ولا يمكن أن تطبق بعض الأحكام كما تم تطبيقها منذ ألف عام أو أكثر، لأن المعطيات اختلفت وإعمال العقل فريضة ربانية ولا خلاف على الثوابت، ولكن المتغيرات تحتاج إلى المزيد من تطور الفكر الديني ليواكب معطيات العصر.. ماذا وإلا علينا أن لا نستخدم السيارة ولا الطائرة ونركب الدابة ولا نستخدم المحمول ولا الإنترنت ونعود إلى الحمام الزاجل.
وبما أن الشيخ أقر أنه ليس داعية وأن سيد قطب ليس داعية والذي ألّف كتابا كفّر فيه الحاكم والمجتمع.. وأتى من بعده شيوخ كل ما قدموه للبشرية هو مزيد من الشحن ليثوروا على أوطانهم ويخربوها ثم يتملصون من فعلتهم ويستمتعون بالزواج من الفتيات الصغيرات اللائي أذلتهن وأهليهن الحاجة واغتررن بالكلمات المعسولة المغلفة بالتقوى والإيمان .. فهم يتقربون إلى الله بالجهاد في الفراش ويكفرون العلماء والمخترعين ومن قدموا للبشرية التكنولوجيا في الطب والاتصالات والطاقة والتي خدمت الإنسان ويسّرت حياته وفي أحيان أخرى أنقذت أرواحا ويدّعون أنهم الأفضل عند الله.. وهنا نذكرهم أن العدل هو اسم من أسماء الله الحسنى، ولأنه هو العادل فله معايير مختلفة عن معايير البشر.. فلا يجوز تكفير إنسان أيا كان، فلعله عند الله أفضل، وأن يظل الحُكم لله وحده هو الأعلم بالسرائر وما تخفي النفوس، ولذا كان الإصرار الدائم على ضرورة تطوير وتحديث وتبسيط الخطاب الديني ووقف موجة التشدد التي قادها هؤلاء الشيوخ.