تاريخ ومزارات

حلف الفضول.. أول وثيقة عدل في تاريخ مكة قبل الإسلام

في زمن كانت القوة هي الحكم، والظلم عادة بين القبائل، شهدت مكة المكرمة حدثًا فريدًا سبق البعثة النبوية، حمل قيم العدالة ونصرة المظلومين، وهو حلف الفضول الذي يُعد من أعظم المواقف الأخلاقية التي عرفها العرب قبل الإسلام.

حلف الفضول النشأة والتأسيس

تأسس حلف الفضول في شهر ذي القعدة عام 33 قبل الهجرة الموافق 591م، أي بعد نحو أربعة أشهر من حرب الفجار التي اندلعت في سوق عكاظ بين قريش وحلفائها من كنانة، وبين قيس عيلان، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، شعر بعض عقلاء قريش بضرورة إقامة عهد يردع الظلم وينصر المظلومين داخل مكة، فجاءت الدعوة إلى هذا الحلف العظيم.

تداعت خمس قبائل من قريش إلى الاجتماع، وهي بنو هاشم، بنو المطلب، أسد بن عبد العزى، زهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، ومعهم بنو الهون من كنانة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التميمي لما له من مكانة وشرف وسنّ، وتعاقدوا على أن يقفوا صفًا واحدًا ضد كل ظالم، وألا يُترك بمكة مظلوم إلا نصر حتى تُعاد إليه مظلمته.

وشهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف قبل بعثته، وقال عنه بعد النبوة:
“لقد شهدتُ مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت.”

سبب عقد الحلف

تعود القصة إلى رجل من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي ثم امتنع عن دفع ثمنها، فاستغاث الرجل بقبائل قريش الكبرى مثل بني عبد الدار ومخزوم وجمح وسهم وعدي، لكنهم تجاهلوا شكواه، فصعد جبل أبي قبيس ونادى بصوت مرتفع أبياتًا يستنجد فيها بأهل المروءة قائلاً:

يا للرجال لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر

فحرّك نداءُه نخوةَ الزبير بن عبد المطلب، فجمع قبائل قريش الشريفة، وعقدوا حلفًا نصروه فيه حتى استعاد بضاعته من العاص بن وائل، ومن هنا عُرف هذا العهد باسم حلف الفضول.

من أشعار الحلف
قال الزبير بن عبد المطلب مفتخرًا بهذا الموقف:

حلفت لنقعدن حلفًا عليهم
وإن كنا جميعًا أهل دار

نسميه الفضول إذا عقدنا
يعزّ به الغريب لدى الجوار

وقال أيضًا:

إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا
ألا يقيم ببطن مكة ظالم

سبب التسمية

تعددت الروايات حول سبب تسمية الحلف بـ”الفضول”، وأشهرها أن ثلاثة رجال من جرهم قديمًا عقدوا معاهدة مماثلة، وأسماؤهم جميعًا تبدأ بـ”الفضل”، وهم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، فلما قام القرشيون بعقد حلف مشابه، سُمّي باسمهم “الفضول”.

وقيل أيضًا إن قريش قالت: “لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر” أي في شرفٍ وكرامة، فسُمّي الحلف بذلك الاسم.

مبادئ حلف الفضول

كان الحلف قائمًا على أسس إنسانية وأخلاقية نادرة في ذلك الزمان، أهمها:

  • نصرة المظلوم أيًا كانت مكانته أو نسبه.
  • منع الظلم داخل مكة سواء على أهلها أو زائريها.
  • رد الحقوق إلى أصحابها بالقوة الجماعية.
  • التعاون على البرّ والمواساة في المعيشة.
  • الوقوف يدًا واحدة ضد كل معتدٍ.

الأعلام والرموز

أبرز من شارك في تأسيس الحلف كان الزبير بن عبد المطلب، وهو من دعا إليه، فيما احتضن عبد الله بن جدعان التميمي الاجتماع في داره، وقد حضره ممثلون عن بطون قريش الكبرى، وكان من بين الحاضرين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو في العشرين من عمره، ليشهد أول عمل جماعي يدعو للعدالة والمساواة.

أهمية الحلف وتأثيره

يعد حلف الفضول من أول المواثيق الحقوقية في التاريخ العربي، إذ أسس لمفهوم العدالة الاجتماعية قبل الإسلام، وعبر عن روح المروءة التي كانت نواة للقيم الإسلامية لاحقًا، وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يذكره بإعزاز حتى بعد البعثة، لما فيه من نصرة للحق وردع للظلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى