لغة الذهب وأرض المقاتلين.. أسرار لا تعرفها عن سكان ودیان حلايب وشلاتين

في أقصى الجنوب الشرقي من مصر، وعلى حدود محافظة البحر الأحمر، تعيش مجموعات مصرية الأصل تحمل ملامح سمراء صلبة، حفرت السنوات على وجوههم ملامح حزن دائم، نتيجة الإهمال الذي طالهم لعقود متتالية، فهذه الجموع التي تقيم داخل الوديان الجبلية في مثلث حلايب وشلاتين، تملك تاريخا عريقا كفيلا بأن يملأ صفحات لا تنتهي، ويأسر كل من اقترب منها داخل أرض تعرف بين أهلها باسم أرض الذهب.
شعب يتحدث لغة لا يعرفها سواهم
أهالي هذه الوديان لا يتحدثون العربية كلغتهم الأساسية، بل يستخدمون اللغة البجاوية، وهي لغة منطوقة فقط، لا تُكتب، ولا يعرف مفرداتها سوى من ينتمي لقبائل البجا، من يتحدث بينهم بالعربية يبدو غريبا أو متكلفا، حتى لو كان من نفس الأرض.
البجا.. أصل الفراعنة ومصدر الهيروغليفية
أوضح الشيخ محمد طاهر سدو، أحد كبار مشايخ المثلث، أن اللغة البجاوية هي لسان حال سكان المنطقة، ويتحدث بها معظمهم، رغم أن بعضهم يتقن العربية أيضا، وأشار إلى أن هذه اللغة سبقت الهيروغليفية تاريخيا، وأن الأخيرة اقتبست منها العديد من مفرداتها، فاسم بيجا يعني المقاتلين، وهي صفة حملها الفراعنة القدامى.
وأوضح أن هناك عددا من الأودية العميقة لا تزال محتفظة بالكامل بهذه اللغة، مثل ميسح والشلال وادلديب وأم رسين وشناي وبئنيت وفروكيت وكات هيوه ومنديكاون وإيلاب وغيرها، يعيش سكانها على تربية الإبل والأغنام، ويحبون حياة البداوة ولا يرتاحون في المدن، ولا ينامون إلا تحت ضوء النجوم.
دلالات لغوية تربط البجا بالحضارة القديمة
سرد سدو مجموعة من الكلمات التي تؤكد هذا الربط، مثل فرائيون وتعني الأب العظيم، ونفرتيتي وتعني التوأم الجميل، وسنا تيتي بمعنى الأخ التوأم، وسنفرو التي تعني الأخ الجميل، وسواركن التي تعني الكبير، وأكرتيل التي تعني القبر، وكلها كلمات بجاوية لها أصول فرعونية.
وكشف أن اسم فلسطين نفسه مأخوذ من كلمة بجاوية هي فلست، وتعني الممر الضيق، مشيرا إلى أن حرف ط لا يُنطق في البجاوية ويستبدل بـ ت، لذلك تُنطق فلسطين على ألسنتهم فلستين، أي ممرنا الضيق.
البجاويون يحفظون لغتهم رغم مرور الزمن
تحدث الشاب أبو عبيدة عيسى البشاري عن الدراسات الألمانية التي تؤكد أن الفراعنة كانوا من البجا، أو أن البجاويين هم مقاتلو الفراعنة، كما أشار إلى أن تحية السلام بينهم تُقال دابايوي، وأن اسم مصر لديهم يعني الأرض الخصبة المطمورة.
فيما أوضح حمادة سويلم من شباب البشارية أن اللغة العربية لم تستطع أن تنتزع مكان اللغة البجاوية رغم مرور قرون من نزوح العرب إلى أرض البجا، وذلك لأن الارتباط بلغتهم الأم ظل راسخا عبر الأمهات البجاويات، حتى اندثرت معظم ملامح اللهجة العربية باستثناء بعض الأسماء.
عادات الزواج الفريدة عند قبائل البجا
من أبرز العادات الاجتماعية في وديان حلايب وشلاتين، زواج الأبناء في سن مبكرة لضمان الإنجاب المبكر واستمرار النسب، إضافة إلى التمسك بزواج الأقارب لتحقيق التكافؤ، كما لا يُسمح للفتى بالزواج من خارج القبيلة.
يولي البجاوي اهتماما خاصا بوالدة زوجته ويكرمها، ويبدأ التقدم للزواج بتقديم هدية تعرف باسم وألوم، تعني الإعلام، ثم يقدم العريس بعد الموافقة هدايا تعرف باسم بهدو، وهي عبارة عن ملابس وسكر وقهوة وحلويات وتمور وفول سوداني تقدم لوالدة العروس، وإذا رفضت، يسعى الجميع لإقناعها بشتى الطرق.
وأكد حمادة سويلم أن موافقة والد الفتاة لا تكفي وحدها، بل يجب أخذ رأي الأقارب، وإذا أصر الأب على تزويجها دون رضاهم فقد يتعرض العريس للمقاطعة أو الانتقام، إلا إذا كان من أهل الدين أو معروفا بحسن الخلق.
طقوس الزفاف وموكب الفرح
يتحدث الحسن عثمان عن مراسم الزفاف، ويصف كيف تقام احتفالات الزفاف في الوديان، حيث تحمل النساء السنكواب، وهو جريد نخيل مربوط بخيوط من الصوف، ويطوفن حول منزل العروس على ظهور الجمال وسط الزغاريد، ثم يشهر العريس سيفه ويطوف حول المكان معلنا حمايته للمنزل، وتذبح الذبائح ويعد الطعام التقليدي المكون من عصيدة ولحم الإبل أو الضأن.
وأشار إلى أن أشهر الزواج المفضلة لدى البجا هي ربيع أول، ربيع ثان، جماد أول وجماد ثان، وفي حال تعذر الزواج خلالها، يؤجلونه إلى شهر ذي الحجة، بينما يرفضون إقامة الزواج في شهري محرم وصفر.
طبق السلات.. مذاق لا يشبه غيره
عن طعامهم التقليدي، أوضح أبو عبيدة أن أشهر الأكلات لديهم تسمى السلات، وهي عبارة عن لحم ضأن أو ماعز يتم شويه على أحجار البازلت الموضوعة داخل مواقد من الخشب والنباتات المشتعلة، تستغرق عملية الطهي نحو ساعة، وتُضاف إليها التوابل، وسميت سلات لأن البازلت يسحب الدهون من اللحم، وتشبه في تحضيرها الكباب، وتوجد مواقد السلات أمام كل منزل في المنطقة.
هكذا، يعيش البجا في وديان حلايب وشلاتين، متمسكين بلغتهم وتقاليدهم ونمط حياتهم المتفرد، في عالم يبدو وكأنه لا يزال يحتفظ بروح الحضارات القديمة التي اندثرت من أماكن كثيرة لكنها لا تزال تنبض بالحياة على أطراف مصر.



