ثورة الزنج.. انتفاضة العبيد التي هزت الخلافة العباسية

في القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي، شهد جنوب وشرق العراق واحدة من أقوى الانتفاضات التي واجهتها الخلافة العباسية، ثورة الزنج، التي استمرت أربعة عشر عامًا، مثلت فيها قوة عسكرية وتنظيمًا غير مسبوقين، فمن هم الزنج، ولماذا ثاروا، وكيف استطاعوا الصمود كل هذه السنوات، وما الذي أدى إلى نهايتهم.
قصة ثورة الزنج
الزنج هم العبيد الذين جلبوا من شرق إفريقيا، خصوصًا من زنجبار ومومباسا، على يد خلفاء بني العباس، وكان الهدف من استقدامهم استصلاح الأراضي المالحة وتحويلها إلى أراضٍ صالحة للزراعة، بالإضافة إلى توظيفهم كجنود مساعدين في الجيش، لكنهم عاشوا تحت ظروف قاسية، حيث أوكلت مسؤوليتهم إلى وكلاء عاملوا العبيد بوحشية زادت من معاناتهم، وفي عهد الخليفة المعتمد على الله، اشتدت قسوة أوضاعهم، فقد كانوا يحصلون على أرخص أنواع الطعام، كالدقيق والتمر والسويق، وبكميات شحيحة، وينامون في العراء بعيدًا عن عائلاتهم، بينما كان العبيد البيض يحظون بمكانة أفضل، والخصيان العاملون في القصور يتمتعون بحياة مرفهة، مما فجّر في نفوسهم رغبة الانتفاض ضد واقعهم البائس.
قاد هذه الثورة علي بن محمد، الذي امتلك شخصية كاريزمية، وكان شاعرًا وخطيبًا بارعًا، وادّعى نسبه إلى أهل البيت، في عيد الفطر عام 255هـ/869م، ألقى خطبة مؤثرة وعد فيها العبيد بأنهم سيصبحون أحرارًا يملكون القصور والجواري والطعام الوفير، فالتف حوله الكثيرون ممن قست عليهم الحياة، رفض علي جميع محاولات إغرائهم للعودة إلى أعمالهم مقابل أموال، كما لم تنجح محاولات حرمانهم من الطعام لإجبارهم على الاستسلام، فكانت أولى تحركاتهم مهاجمة مدينة الأبلة عام 870م، حيث حرروا العبيد هناك، وضموهم إلى صفوفهم، ثم نهبوا المدينة وأحرقوها، الأمر الذي منحهم ثقة أكبر في مواجهة المدن الأخرى.
سرعان ما توسعت الثورة، فسيطر الزنج على جنوب العراق وأجزاء من إيران، واقتربوا من أبواب بغداد، مما أدى إلى اضطراب التجارة ونقص الإمدادات الغذائية في العاصمة، وفي عام 871م، قاد المهلبي، أحد أبرز قادة الزنج، هجومًا كاسحًا على البصرة، انتهى بتدميرها وقتل مئات الآلاف من سكانها، وسبي الآلاف من النساء والأطفال، حتى قيل إن لكل عبد زنجي عشر نساء تُباع بدراهم معدودة، لم يكتفوا بذلك، بل واصلوا زحفهم إلى الكوفة ودمروها، مما رسخ وحشية الثورة في ذاكرة الناس، وأصبح يقال إن الزنج دمروا البصرة وأحرقوا الكوفة.
حاولت الخلافة العباسية إخماد الثورة، فأرسل الخليفة المعتز بالله جيشًا قوامه 15 ألف مقاتل بقيادة القائد التركي جمد، لكن الزنج ألحقوا به هزيمةً قاسيةً، فقُتل القائد ومُثّل بجثته، لم تكن تلك المحاولة الأخيرة، فقد أرسلت الخلافة جيوشًا متتالية للقضاء على الزنج، كما عرضت الأموال والعفو على المنشقين عنهم، مما دفع بعض الثوار إلى ترك علي بن محمد والانضمام إلى العباسيين، وبمرور الوقت، اشتد الحصار على الزنج، فاستخدمت ضدهم أسلحة قاتلة، منها الرصاص المصهور والنار اليونانية المعروفة بالنفط الملتهب، حتى جاءت اللحظة الحاسمة عام 883م، حين قاد الوزير أبو أحمد الموفق، أخو الخليفة المعتمد، جيشًا ضخمًا هاجم معقل الزنج، فاجتاح المدينة وقتل علي بن محمد، وأرسل رأسه إلى بغداد، وسجد الموفق وجنوده شكرًا لله على النصر.
دامت ثورة الزنج أربعة عشر عامًا، بفضل قوتها العسكرية وتنظيمها والدعم الشعبي الذي حظيت به من العبيد المضطهدين، لكنها انتهت بعد حصار طويل وخيانات داخلية، لتترك العراق في حالة اضطراب استغلها أحمد بن طولون لاحقًا للانفصال بمصر، مما زاد من ضعف الخلافة العباسية، فكانت هذه الثورة من أكثر الانتفاضات دموية وتأثيرًا في تاريخ العالم الإسلامي.