تاريخ ومزارات

الأسواق التقليدية بين سحر الماضي وتحديات الحاضر.. هل تضيع هوية المدن العربية؟

منذ القدم عرفت المدن والقرى العربية والإسلامية الأسواق كمراكز حيوية تجمع بين التجارة والتفاعل الاجتماعي، حيث لم تقتصر هذه الأسواق على المدن الكبرى فقط بل امتدت حتى إلى القرى النائية، فصارت كل منطقة تتميز بسوقها الذي قد يكون مكشوفًا أو مسقوفًا، بلمسات معمارية أخاذة تعكس طابعها الثقافي. ولم تكن الأسواق مجرد أماكن للبيع والشراء، بل كانت القلب النابض للمدن، تحيط بها المنازل والمدارس ودور العبادة والمشافي، لتشكل نواة عمرانية متكاملة تجذب الناس للتجارة والتواصل الاجتماعي.

تاريخ الأسواق التقليدية 

لكن حين نتجول اليوم في الدول العربية والإسلامية نجد أن هذه الأسواق، رغم بقاء بعضها نشطًا، تعرضت لتهميش كبير باسم التحديث والحداثة، فباتت الأسواق القديمة مهملة أو مهجورة، وحلت محلها مجمعات تجارية تفتقد للهوية، مستوردة من ثقافات لا تاريخ لها في العمران التقليدي. أصبحت المدن في كثير من البلدان تعتمد نموذجًا عمليًا بحتًا، حيث تسللت الأبراج الإسمنتية والمجمعات الضخمة لتحل مكان الأسواق العريقة، فتبدلت المفاهيم من أسواق تحتضن الناس وتربط بينهم، إلى مراكز تجارية قائمة على البعد المادي البحت.

لطالما كانت الأسواق العربية ملتقى لكل فئات المجتمع، حتى أن العرب في الجاهلية اشتهروا بأسواقهم التي لم تكن مجرد أماكن تجارية، بل ساحات للخطابة والشعر والتفاعل الثقافي. واستمر هذا الدور في العصر الإسلامي، حيث توسعت الأسواق في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وظهرت فيها أنظمة متطورة مثل الحسبة والمحتسب لضبط التجارة وضمان الأمن والنظام. لم تقتصر هذه التنظيمات على التجارة فحسب، بل شملت العمارة السكنية والدينية والتعليمية، فتحولت الأسواق إلى مدن مصغرة تُغلق ليلاً وتفتح نهارًا، لتظل نابضة بالحياة على مدار اليوم.

لم تغب هذه الأسواق عن أي مدينة عربية أو إسلامية، سواء في المشرق أو المغرب، أو حتى في أطراف آسيا مثل الهند والسند، وأوروبا كما في الأندلس، والجزر المتوسطية كصقلية وسردينيا ومالطا. إلا أن واقعها اليوم يثير الأسى، فقد تحولت المدن بأكملها إلى أسواق ضخمة تفتقد للروح التاريخية، بينما انزوت الأسواق التقليدية على الهامش، مهملة ومفككة، لا يزورها سوى القليل من السكان المحليين أو السياح الراغبين في استكشاف عبق الماضي.

أسواق عريقة

ورغم هذا التراجع، فقد أدركت بعض المدن أهمية هذه الأسواق وأعادت تأهيلها، كما فعلت دمشق مع سوق الحميدية، والرياض في شارع المتنبي، ودبي في سوق ديرة، وتونس مع سوقها القديم، لكن في المقابل، ما زالت أسواق عريقة مثل خان الخليلي في القاهرة تعاني من الإهمال، تمامًا كما هو الحال في الرباط، وحلب، وبغداد، وجدة، والجزائر. فهل السبب يعود إلى المستثمرين الذين يفضلون البناء الحديث الرخيص على إعادة التأهيل، أم أن وزارات الثقافة والمؤسسات المعنية بالتراث لم تقم بدورها، أم أن أنماط الحياة العصرية دفعت الناس إلى التوجه نحو المجمعات الحديثة بحثًا عن الراحة والمواقف الواسعة والخدمات المتطورة؟

على عكس الوضع في العديد من الدول العربية، نجحت بلدان أوروبا الشرقية والغربية، وكذلك دول شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، في الحفاظ على أسواقها التاريخية، إذ أدركت قيمتها الثقافية والسياحية فعملت على تطويرها بدلاً من تهميشها. في العديد من هذه المدن، لا تزال الأسواق القديمة قلب الحياة، حتى باتت العقارات فيها الأغلى بسبب الإقبال الكبير على السكن فيها أو امتلاك المحال التجارية داخلها، كما أصبحت وجهة رئيسية للسياح الذين ينجذبون إلى أصالتها وسحرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى