“جب وتفنوت” أسطورة الخلق وتجسيد الطبيعة في سقف معبد حتحور بدندرة

كتبت شيماء طه
تعتبر الأساطير المصرية القديمة انعكاسًا عميقًا للعلاقة التي ربطت المصري القديم بالطبيعة والكون من حوله. ومن بين هذه الأساطير، يبرز الإله “جب”، رب الأرض، ووالدته الإلهة “تفنوت”، ربّة الرطوبة، كأحد أهم رموز الطبيعة والتوازن الكوني. يجسد معبد حتحور بدندرة هذا الانسجام بين الآلهة والطبيعة، حيث يظهر جب وتفنوت على سقفه بأشكال فنية تروي قصص الخلق والخصوبة.
جب: رب الأرض وحامي الخصوبة
جب هو الإله الذي يمثل الأرض، وهو ابن الإله “شو”، رب الهواء، والإلهة “تفنوت”، ربّة الرطوبة. وُصف جب في النصوص المصرية القديمة ككيان قوي يحمل الأرض على أكتافه ويمنحها الحياة والخصوبة.
وكان يُعتقد أن جب هو المسؤول عن تغذية الأرض ودعم النبات والحيوان، مما جعل المصريين القدماء ينظرون إليه كرمز للعطاء والتجدد.
غالبًا ما صُوّر جب مستلقيًا على ظهره بينما تمتد السماء فوقه، ممثلةً بشقيقته وزوجته الإلهة “نوت”. ويمثل هذا التصوير العلاقة المتشابكة بين الأرض والسماء، حيث يعكس التوازن بين القوى الكونية.
تفنوت: رمز الرطوبة والمطر
تفنوت، والدة جب، هي الإلهة التي تجسد الرطوبة، سواء كانت في شكل المطر أو الضباب أو حتى الندى. كانت تفنوت عنصرًا أساسيًا في أسطورة الخلق، حيث تُعتبر القوة التي تجمع بين الهواء (شو) والماء (نوت) لتكوين الحياة.
تظهر تفنوت في النصوص والتصاوير بشكل امرأة تحمل فوق رأسها قرص الشمس، مما يربطها بعنصر الحياة والطاقة. وباعتبارها جزءًا من النظام الكوني، كان لها دور كبير في الحفاظ على التوازن بين عناصر الطبيعة.
التجسيد الفني في سقف معبد حتحور
معبد حتحور بدندرة، الواقع بالقرب من مدينة قنا في صعيد مصر، يعد من أجمل المعابد التي تحمل زخارف وأساطير مصرية.
سقف المعبد يُعتبر كنزًا فنيًا وأسطوريًا حيث تم تجسيد الآلهة المصرية بطريقة تعكس فهمهم العميق للطبيعة والكون.
في إحدى الزخارف البديعة على سقف المعبد، يظهر جب وتفنوت في مشهد مهيب يعبر عن دورهما الكوني. جب يظهر كرجل مستلقٍ يمسك بالأرض ويرمز إلى قوتها وثباتها. تفنوت تظهر بجواره في شكل أنثوي يعكس لطفها ورقتها كرمز للرطوبة التي تمنح الحياة.
الأبعاد الرمزية في الأسطورة
تجسد أسطورة جب وتفنوت العلاقة بين القوى الطبيعية الأساسية، الأرض تحتاج إلى الرطوبة لتزدهر، والرطوبة بدون الأرض تفقد وظيفتها. هذا الترابط يبرز الفهم العميق للمصريين القدماء لدورة الحياة وكيفية عمل الكون بتناغم كامل.
كما أن هذا التجسيد الفني على سقف معبد حتحور يعكس مكانة هذه الآلهة في العقل الجمعي للمصري القديم.
فالمعبد ليس فقط مكانًا للعبادة، بل هو سجل حي يعبر عن العقائد والفلسفات الكونية التي شكلت رؤيتهم للحياة والموت والخلق.
معبد حتحور: مركز العبادة والجمال
معبد حتحور بدندرة ليس مجرد معبد ديني، بل هو مركز ثقافي يعكس رؤية المصريين القدماء للجمال والطبيعة والعبادة.
إرتبطت حتحور، ربة الجمال والموسيقى والحب، بالعطاء والحياة، مما يجعل سقف المعبد الممتلئ بالزخارف والأساطير تعبيرًا مثاليًا عن العلاقة بين البشر والآلهة والطبيعة.
التصاوير على سقف المعبد ليست مجرد رسومات، بل هي قصص تُروى من خلال الفن، جب وتفنوت هما عنصران أساسيان في هذه القصص، حيث يمثلان القوى الطبيعية التي تؤمن استمرار الحياة على الأرض.
جب وتفنوت في مرآة الحضارة
إن وجود جب وتفنوت على سقف معبد حتحور في دندرة يعكس بوضوح ارتباط المصري القديم بالطبيعة ورؤيته للكون ككيان متكامل يعمل بتناغم.
إن تجسيد الآلهة لم يكن فقط تعبيرًا عن الإيمان، بل كان رسالة مستمرة عن أهمية الحفاظ على التوازن بين القوى المختلفة للحياة.
من خلال الفن والرموز، ترك لنا المصريون القدماء إرثًا خالدًا يروي حكايات عن الأرض والسماء، الماء والهواء، وكيف يمكن للتوازن أن يخلق عالمًا مستدامًا ومزدهرًا.