فنون و ادب

التأويل وتطبيقات الحداثة الشعرية

دراسة تطبيقية

حاتم عبدالهادى السيد

يطالعنا الشاعر / أحمد عادل فى ديوانه ( لبعض الوقت ) بعنوان ملغز مثير للتساؤل ، فأى وقت يقصده ؟ وأى بعض لهذا الزمن الذى يقتطعه لنا من الوقت الذى يدلنا الى زمانية ومكانية معاشة عنده ، ربما تخصه ، أو تخص آخرين ، الا أنه وقت مستقطع من حياة أراد هو أن يعيش فيها ، ونعيش معه – كمتلقين – لبعض الوقت فيما ارتآه وخطّه لنا يراعه على ورق الشعر الأخضر المرفرف فى أقاليم الروح والحياة والعالم .

وفى قصيدته الراوي نرى اتكاءه – بداية – على الراوى كسارد عليم أو حكّاء شعري ، ليروى لنا قصة حبه منذ البداية وهو فى ” فصل الدراسة ” حيث حبيبته الأولى وحكايتها يرويها لنا الراوى بسرد شعرى تفعيلي غاية فى الروعة والسموق يقول :

لا غيب أورده فضولي

فالراوئىّ الذى صدّقته ترك الرواية لى لأكمل ما تبقّى من تفاصيل

ولم تكن البداية مثلها أبغى

إذا لذكرت أنى منذ تسع سنين

لم اعبأ بمن كتبت على كرسيي الخشبي

– قبل الحصة الأولى –

أحبك. ( الديوان : ص8) .

انها لغة القصّ الشعرى ، يستخدمها الشاعر من خلال سرد راو يجيد الحكى المحبب الى الروح لفتاة الشاعر التى -كما يصوّرها – لها حنان الأم ودفء البحر ، وهى حديقة الحنان والحب فيغدو الشاعر متصوفاً فى بحر الحب والدلال ، ويغدو كمتصوف عابد ويتبين ذلك فى لغة الشعر التى يجنح نحو التصوف والشّوف ولوعة الملتاث بالحب ، يقول :

لم أكن أدري بأنى كنت استبق الزمان وأرقب الأحداث من شرّاعة الغيب الحبيبة شرعها

أن لا تجئ قبيل موعدها

وأن لا تبتدى بالبوح

كيف تكسر القانون يا وجعي ؟! ( الديوان : ص 18) .

هذا ويستخدم الشاعر مع الحبيبة “التّناص الديني” من خلال محاورة السامرى مع سيدنا موسى والحواريين وكيف نراه يصطحب حبيبته بدلاً من بني إسرائيل الى صحراء التيه ويطلب منها على الأقل أن ترفق بروحه مثلما كانت المعجزة مع سيدنا إبراهيم : ” يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ” صدق الله العظيم ، يقول :

يا حبيبة ليس عندي ما يبلغني دياري آمناً

والسامرىّ نبى من جافاه موسى والحواريون أضعف من مناصرتي

إذاً حان الصليب

السامرى نبي من جافاه موسى

فاصحبيني في صحارى التيه

أو كوني علىّ وإخوتي برداً سلاما ( الديوان : ص19).

هذا ويتمثل الشاعر لغة التصوّف حيناً ، والنص القرآني فى حديث موسى مع ربه على جبل الطور بسيناء حين قال : ” ربى أرنى أنظر اليك .. قال اذا نظرت للجبل سوف ترانى ” ، وفى هذا تماثل بديع يجيد الشاعرسبكه وتضمينه فى تناصّ يخصه وحبيبته.. وعبر الغياب والحضور وتلك الثنائيات والتناقضات تتبدّى جماليات الشعرية يقول :

أنا حاضر

أنا غائب

وأنا الثنائيات دون توافق

وأنا شبيهي ان أردت

أنا نقيضى ان أردت

لم أرهب سواي لأنني مذ قلت لى :

أرنى اذاً أنظر الىّ . ( الديوان : ص 23 ) .

انه الشّوف للذات لتشفّ وترفّ وتسمو وتسمق لترى الحاضر الغائب عبر ثنائيات الظل والصورة والمتناقضات، فالحقيقة ثابتة ولكنها لا تتكشّف الا لمن يبحث عنها ويتذوق حلاوتها كما يقول عبر صورته الفنية البديعة : الحقيقة لا تبين نهدها

إلا لمن لا يستسيغ حليبها ( الديوان : ص25).

ولعل هذه الصورة المفارقة العكسية تعكس شاعرية الشاعر وفلسفته لقلب الأشياء والحقيقة ومغايرتها ، فالحقيقة هى فى الواقع لمن يطلبها ليستسيغ حلاوتها الا أنها تصدّ الحرمان وذات الشاعر المقهورة التى لا تطال الحب، وان شغف بالمحبوبة طوال الوقت .

هذا وقد يستخدم الشاعر ( التناص المرسل ) – كما أصطلح – فى رواية سيدنا يوسف عليه السلام ، عن طريق التماثل ليضع ذاته فى متن الحدث ليكون “يوسف الشعر” الذى سجنه التعفّف عن الغواية فعاش فى السجن كما نشاهد الشاعر مهموما بالذات الوالهة ، يرقب العالم والكون والحياة ، يقول :

أخرجت يوسف

ثم جئت به الى أرض العزيز

لكى يأوّل لى منامي

فى غوايات الحروف الآن

متسع لسجني ( الديوان : ص 27) .

انها مفارقة ادهاشية تنمّ عن شاعر قارئ ، يموسق شعره ، ويوشّيه بمنمنمات ” التناص الاحالي”، وباشارية لذاته ، لذا نراه كجوّال يطوف العالم بمزماره الشعرى الذى يعزف الشجن الحزين ، يبحث عن الذات ، وسرّ الذات ،وعن السرّ ، وذات السّر، وسر السر ، وأسرار الحياة ، فلا يجد غير ذاته الهشّة وفلسفته الصوفية الجميلة ، يقول : سيرى ببطء يا حياة لكى أراك

بكامل النقصان حولى

كم نسيتك فى خضمّك

باحثاً عنى وعنك

وكلما أدركت سراً فيك قلت بقسوة

ما أجهلك !

قل للغياب نقصتنى

وأنا حضرت لأكملك .

انها لغة الفيلسوف المتأمل الحالم فى الوجود والكون والعالم والحياة.

ومع جنوح الشعرية عند / أحمد عادل الى استخدام التفعيلة ، الا أننا نراه فى بعض القصائد يهرب من الموسيقى الى النثر وذلك فى القسم الأخير من الديوان ، وكأنه يصنع عالمه الصامت الصاخب المتسائل عم سيصنعه الآخرون به ، وهو الذى لا يملك الا ذاته وجسده المرهق من التّجوال فى العالم ، أى انه يبحث عن ذاته وسط ركامات العالم فلا يجد غير ذاته ، فنراه يرفض الجميع وينتصر لذاته وحده ، يقول :

ماذا ستفعلون بى

اذا تخليت عن ايقاع باهت تحبونه

الى نثر لا تحبونه

احملوا آذانكم وامشوا بعيداً عنى

اذاً انزعجتم منى

فانى قد هيأت المكان لى وحدى وزينته بأجزائى

لا تتفننوا فى اخفاء خيبة أملكم فىّ حبيبتى نفسها لم تتكلف ذلك وآمنت معها

لأننى أحب رسولة لا تحتاج الى التكلف لاقناعى

أعلم اننى سأكون

عبئاً آخر من أعباء حياتكم القاسية ( الديوان : ص47) .

انه الشاعر الذى ينتصر للذات ، يرفضه الأصدقاء ، وترفضه الحبيبة ، هو يريد العيش مع رسولة الشعر ، يبحث عن البرهان ويحترم القوانين الخاصة به ، لا القوانين الوضعية ، يعيش بمنطق الذات بريئاً يطلب الحب والجمال ، يقول :

يا أختى

أنا المحترم للقوانين

الخارج عنها

وأنا المعاقب بالقوانين

البرئ فيها .

انها فلسفة شاعر : فلسفة تنمّ عن اقتدار وشاعرية ، ومعرفة باللغة وتراكيبها ، يتماثل مع الأولياء والرسل ليكتسب لذاته مكان القداسة ، يموج مع المتصوفة والفلاسفة والشعراء ، ينفر من القوانين ويحاول كسر المألوف والمتوقّع بلغة دافئة حالمة تؤطر لشاعر يموسق الجمال ويذيبه فى كأسه التى يتبادل فيها الأنخاب مع ذاته فقط ، وتلك لعمرى شاعرية دافقة لشاعر يمسك بأهداب الشعر دون أن تطرف ريشته نورانية الدفء فى قلب محب وشاعر يجول أقاليم العالم ، وهو ينزف ألماً وشجواً وشجناً غاية فى الجمال والسموق الشعرى الممتد .

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى