أهم الاخبارفنون و ادب

الذات و الموضوع “واقعية السرد و انكسار الحلم”

قراءة فى مجموعة " الإنحدار إلى أعلى "

 

كتب : حاتم عبدالهادي السيد

 

تمثل مجموعة الإنحدار إلى أعلى أنموذجا متميزاً فى عالم القصة ، لما تتمتع به من مزج الحلم بالواقع ، و الملهاة بالمأساة ، و الموج الجيد بين الأجناس الأدبية : المسرح ، الرواية ، الشعر  و مزج كل ذلك بالتيارات الحداثية فأخرج لنا عملاً ابداعيا مختلفاً و هو – فى اعتقادى – سمة تميزه عن غيره ، و المجموعة تضم أربعة عشر قصة تمزج بين الواقع والحلم و قضايا الواقع الحياتية .

 

كما يتميز السرد بشفافية التناول و اعتماده على التراكم النغمى لزخم المفردة ذات الفونيم الصوتى الحالم ، كل ذلك فى اطار عالم مغلف بأحلام رومانسية لشاب يعيش الواقع و همومه فنراه يتحدث عن المجتمعات الفقيرة وما يصاحبها من قضايا الفقر و الحرمان و سوف نتناول بالدراسة عدة محاور متباينة و كل محور يجمع بين طياته العديد من القضايا المختلفة منها :

 

1- واقعية السرد و قضايا مجتمعية

2- الحب و الموت و صراع الذات

3- علاقة الذات بالموضوع

4- الجمال و فلسفة المشهد السردى

 

و مع تباين تلك المحاور إلا انها تضم فى مجملها اطارا من العلاقات المتشابكة مما يصعب الفصل بينهما

 

أولا : واقعية السرد و قضايا المجتمع :

يحاول الكاتب فى مجموعته التعرض للقضايا التى تمس المجتمع ففى قصته ” انتقام الزمن الردئ ” يحاول أن يهرب من بوابة الفقر إلى الذات المهزومة للطالب الفقير فى مجتمع الجامعة : ” تبوأ ركنا قصيا و كانه أراد أن يتوارى عن انظار الطلبة و الطالبات ، يلوذ منهم فراراً حتى لا تكويه نظراتهم الطاعنة لثيابه الرثة  سوسن الطالبة الثرية تجلس أمامه ، يتمايل عليها حشد من صويحباتها ، يتبادلن فى دلال أنثوى مجموعة من الصور  خطيبك شيك جداً ، بدلته غاية فىالشياكة ” فهو هنا – قد انتقل بنا من قضية الفقر المادى إلى قضية الطبقية ، فالمجتمع الرأسمالى الذى تمثله ” سوسن ” و الطبقة البرولتيارية المتمثلة فى شخص الطالب تجعلنا نقارن و ندرك مدى التفاوت الطبقى فى الجوهر و كذلك فى المظهر : ” الثياب الرثة ” ، ” البدلة الشياكة ” ثم يتعرض للعديد من القضايا مثل : قضايا الايجار و علاقة المؤجر و المستأجر ، مستوى الأسرة المنخفض مادياً ، المعاناة من القوت اليومى و التعامل مع البقال و الجزار وبالأجل و غيرها من القضايا التى يتعرض لها الفرد فى المجتمع الفقير إن واقعية السرد تتبدى فى عفوية الأسلوب و بساطته و مدى تعبيره بصدق عن الحدث لذا يكثر من استخدام أفعال المضارعة : ” يقترب من بيته ، يدفعه فضوله للإقتراب ، يرى والده بين يدى المعلم حسان ، يهزه بعنف ، يعض على نواجذه ألما و حسرة ، يهرع إلى البيت ، يدفع باب الشقة الإبداعى : صورة و تكوينا و ايحاء بالمعنى و رصد ذلك كله فى نسيج لغوى يتمثل فى ” تيار الوعى ” الذى يحاول الكاتب أن يؤطر له من خلال منظور تخيلي موشى بذاتية غائبة  حاضرة لأزمات النفس مع الاتكاء على المكان و الزمان فى إنسيابية ، و لكن الاحباط الداخلى نتج عن تخلخل العلاقة بين الذات و الموضوع فوجدنا اللغة مباشرة و التراكيب مجملها تراثية فالفن هنا له وظيفة اجتماعية و تنويرية معا ، و لذلك جنحت عناوين قصصه إلى المباشرة مثل : ” تداعيات إشكالية – وجه ملائكى – عفوا حبيبتى إنه القدر – إنها حقا جميلة و لكن – زهرة شبابى – وقوع الكارثة – المكتوب على الجبين – قبلة حب – الطابور ” و فى رأيى – أن هذا النوع من القصص يتسم بالسطحية و الاستطراد فى الوصف السردى للحدث و يوقع الكاتب فى أخطاء المباشرة مما يجعله يستخدم الصور التقليدية و الجمل المتكررة ، كما يغفل جانب الخيال ، مع انه يقصرنا على المألوف و الحياتى اليومى دونما تجديد ، و أحسب ان الكاتب فى غفلة من ذلك نظراً لتبادل الأدوار فقد وضع نفسه – نتيجة اندماجه فى السرد – مكان البطل فوقع فى الذاتية المغرقة و أغفل الموضوعية التى يتحلى بها نتيجة للدور المتبادل بينه و بين هذه الشخصية للبطل

 

اى ان إغراق الكاتب فى الفردية – الذاتية – قد احدث توحداً بين زمن الفعل و الحدث و الكتابة فى مثلث اكتملت أضلاعه ، و لقد توحد أسلوب القص فى وحدة زمانية و مكانية مترابطة نتيجة لهذا الإحلال الإندماجى بين الراوى و البطل

 

ثانيا : الجمال و فلسفة المشهد السردى :

 

تبدو العلاقة أكثر تكاملاً و اتساقا بين جماليات الصياغة و فلسفة السرد مما يعطينا مشهداً بصريا أكثر تأزراً ، كما ان نمطية الحركة الحوارية و إنسيابية الحوار يدلان على ثقافة الكاتب و فلسفته و نرى ذلك متجليا فى قصته .

 

” قبلة حب ” : ” صدقنى الحب شئ من الصداقة  و الصداقة هى كل الحب ، الحب قمة الأنانية  قاطعها بنظرة حانية : الحب هو العطاء  الإزدواجية  هو ألد أعداء الأنا هم بأن يقبلها بين عينيها أشاحت بوجهها و صاحت غاضبة : أرأيت الحب تبادل قبلات  و الصداقة تبادل أفكار و عواطف سامية

 

كما نلمح فى قصته ” شبح سعد ” ملامح الكاتب الذاتية مجردة من العواطف و الحب : ” أدرك أننى لا أحتمل بقاء طفل بين يدى أو على كتفى دقائق حتى من باب المجاملة لوالديه ” و هنا تتجلى الشخصية عارية و تكشف عن نفسها و لذلك نراه يحب إبنه أخيه الصغيرة أسماء و يقبلها و يحتضنها لا لشئ و إنما لأنها تشبه حبيبته ومع أنه لا يحتمل الأطفال إلا أنه يجلس مع هذه البنت و يلاعبها فالهدف هنا ليس العطف و إنما ليرى فيها حبيبته الغائبة

 

بقدمه ، يرتمى على سريره المتهالك ، يتهادى إلى مسامعه صوت أخيه : عم حنفى مش عايز يدينى العيش و الحلاوة على النوتة ، كما نلاحظ واقعية التعبير و بساطته و عمقه فى التعبير عن البيئة المعاشة

 

ثالثا : الحب و الموت و صراع الذات :

 

يأخذنا الكاتب إلى الموت الحقيقي فى قصصه : ” إعتراف – الإنحدار إلى أعلى – القدر المحتوم ” و الموت عنده يأخذ منحنى جديداً ، فليس الموت موت الجسد فحسب ، بل الموت موت الروح و فقدان الذات و الضمير ، و الحب – عند كاتبنا – هو المقدمة الأولى التى تستدرجه للصراع النفسي ومن ثم نهايته : ” ليلة العرس اتضح لى أننى أكبر مغفل فلقد كانت فاقدة بكارتها ” و تتجلى هذه المأساة فى انتقاله من حالة السعادة المتمثلة فى حلمه بالزواج إلى كابوس مزعج يلاحقه ؛ إنه موت نفسي للذات الحالة

 

و يتجلى الموت بعد ذلك فى قصته ” الإنحدار إلى أعلى ” التى تحمل اسم المجموعة – بالقتل و الندم و تأنيب الضمير فرأينا حمدان يقتل شقيقته و يندم و يلاحقه ضميره الذى يؤنبه : ” حمدان ما الذى دهاك ” الليل أمامك و لا أرى خلفك غير صحراء واسعة مليئة بالعواصف و الضباب 00 لا يمكن أن تكون قطعة جليد تحارب خيوط الشمس الحارقة ” و نراه فى ” القدر المحتوم “” ينظر متأملاًُ ذلك العجوز الذى يخرج مبكراً ليشترى جريدة الصباح ، ثم نرى التحول السريع إذ تصدم العجوز سيارة مسرعة فيموت و لا يجد امامه ما يغطى به الجثة سوى جريدة الصباح ، إن الموت عند كاتبنا لا يأتى إلا مع الحلم ، فحلم الفتى فى الزواج تقابله صدمة فقد العذرية ؛ و حلم حمدان فى جمع المال تقابله صدمة قتل شقيقته و حلم العجوز تقابله صدمه السيارة ، فترى الحب ممزوجا بالصراع مع الذات و الذى يؤدى فى النهاية إلى الموت .

 

 

 

 

و على الرغم من الجانب الفانتازى المتجلى فى واقعية السرد إلا إننا نلمح تضافر عناصر فنية ثرية كالحلم و الغربة و الحوار الغنى بالمفردات ذات الجرس المتناغم علاوة على الاهتمام بسيكولوجية المعنى المتمثلة فى محاولة إنسلاخ الذات من هموم الواقع توقاً للتحرر و الحرية و لو جاء الموت محققا لهذه الأمنيات الذاتية .

 

رابعاً : علاقة الذات بالموضوع : –

 

إن حميمية العلاقة بين الذات و الموضوع تتجلى – على مهل فى مناطق كثيرة و ربما يحتد الصراع بينهما ، فالذات تمثل الفكر و الوجدان بينما الموضوع يحيلنا للواقع و متغيراته المادية و المعنوية ، و يتجلى ذلك فى التشكيل الفنى للعمل و فى قصته ” شبح سعد ” يتناول موضوعا غير مطروق كثيرا ً فى الأدب و هو تلك العلاقة الحميمة بين الإنسان و الحيوان بين أسماء و خروفها الذى أسمته سعداً و التى تداعبه كل يوم و تعتليه و تقدم له الطعام و كانت الصدمة فى ذبح سعد يوم العيد : ” استيقظت أسماء يوم العيد فلم تسمع له صوتا ، أخذت تفتش عنه فى كل الحجرات و تصرخ فى وجهى أين سعد ؟ أين خروفى يا خال ؟ ”

 

إن هذا الموقف المؤثر يجعلنا نفيق إلى الصدمة التى تعرضت لها الصغيرة التى سببت لها مشكلة بعد ذلك فى هروبها كل عيد إلى بيت عمها و تظل تبكى و كلما آتى خالها تسأله أين سعد يا خال ؟ و نرى عقدة الذنب و تحول المشكلة فمنذ أن ذبح الخروف و هو يؤنب نفسه و لا يأكل اللحم فإذا راى لحما فإنه يتقيأ و يهرب و يتذكر سؤال الصغيرة فيترك البيت إلى بيت عمه ، أحس الجميع بالمشكلة و أمسكوا بالخال و غمسوا يديه فى دماء خروف العيد و جاء أحد الشيوخ و قرأ عليه آيات القرآن و همس فى أذنه بكلام كثير و بعد مدة آفاق الخال و نراه يطلب اللحم بنفسه : ” أخذا أفتش عن جدتى و أطلب منها بإلحاح نصيبي من لحم سعد وأضحك وجدتى تمد يدها فى القدر و تدعو لمولانا : ” ومازلت اهضم و أضحك ومازالت الصغيرة أسماء تسألنى و تصرخ و أنا لا أستطيع الجواب و لا أجرؤ على قتل حبيبتى أسماء ”

إنها قصة تحمل فى طياتها أنبل معانى البراءة الإنسانية و تدل على مدى شفافية الحب و الوفاء  إنها عاطفة سامية نجح الكاتب حسن غريب أحمد فى أن يصورها لنا فى ثوب جميل رائع

 

لقد نجح كاتبنا حسن غريب أحمد فى خلق فضاءات جديدة للقصة و إن أعتمد على الواقعية إلا أنه اتكأ على هموم العصر فعزف عليها اوتاره و نقلها لنا بصورة فنية رائعة ، مما تجعلنا نعيد النظر إلى الواقعية بصورة أكثر جدية وثقة فى قدرة الكاتب على خلق عالم جديد قوامه الحب والجمال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى