المزيد

السفير الدكتور جواد الهنداوي يكتب:العراق بين تعدّد القوميات و الهوية الوطنية : حول مقترح تشريع قانون القوميّة الايزيديّة .

دعتْ ضرورة متابعة الوقائع و الاحداث ،هنا و هناك ، الخوض ،و لو بعموميات ، حال الدولة بين الهويات القومية و الهوية الوطنية و الديمقراطية . دلّني على الموضوع هو استفهام او سؤال ، مفاده ، هل أنَّ هويّة شعبٍ ،او جزء من شعب ( أقلية او مكّون ) بحاجة الى تشريع قانون ؟ ولماذا ؟ لتعريفها ، ام لمنحها الشرعية ،أم لحمايتها من الانقراض ،أم لخصها بشروط و حقوق و واجبات ، غير تلك التي تمنحها الهوية الوطنيّة ؟ .
و مناسبة السؤال هو المقترح الذي تقدّم به عضواً في مجلس النواب العراقي ، وهو من الطائفة او القومية الايزيدية ، إلى مجلس النواب ،لغرض تشريع ” قانون القوميّة الايزيديّة ” ، وحُظي المقترح بتوقيع 180 عضو من مجلس النواب ، مما سمحَ لرئيس مجلس النواب احالة المقترح إلى اللجنة القانونية لإعداد مسودة قانون .
للسؤال او للموضوع ابعاد سياسية ،بكل تأكيد ، ولكن ، دعونا ،أولاً نتناوله دستورياً و فكرياً ،مع الإفصاح بأنني لستُ ضّدَ المقترح و الذي هو ممارسة ديمقراطية ،دستورية ، بل ستكون مناسبة لمعرفة ماذا ستكتب اللجنة القانونية لمجلس النواب في العراق من بنود ونصوص مقترحة لقانون القوميّة الايزيدية ؟
بُنيَّ المقترح على المادة 3 و المادة 61 من الدستور الاتحادي العراقي :
المادة 3 تنصُ على انَّ ” العراق بلد متعدد القوميات و الأديان و المذاهب ، وهو عضو مؤسّس و فعال في جامعة الدول العربية و ملتزم بميثاقها ، و جزء من العالم الإسلامي ” .
المادة 61 من الدستور تنًصُ على ان مجلس النواب هو المختص في تشريع القوانين الاتحادية .
المادة 3 أعلاه وردت لتعريف العراق كشعب متعدّد القوميات و الأديان والمذاهب ، و جاءت بهذه الصيغة تماشياً مع طلب الاخوة الكرد ،بدلاً من ان تكون المادة بصيغة ” العراق دولة عربية وعضواً في جامعة الدول العربية …
بعبارة اخرى لم تكْ في نيّة السلطة التأسيسّية للدستور ، ( وكنت حينها في اللجنة الاستشارية لصياغة الدستور ) ولم يأتْ في بال أعضاءها ان تُستَخدمْ هذه المادة كأساس لتشريع قانون عن هذه او تلك القوميّة .
هدف السلطة التأسيسية للدستور ، مِنْ تضمين المادة 3 هو تعريف العراق ” شعب متعدّد القوميات و الأديان و المذاهب ” ،وليس تعريف العراق ” دولة متعددة القوميات و الأديان و المذاهب . و الفرق بين الحالتيّن : ( حالة العراق كبلد و حالة العراق كدولة ) ،هو ان الاولى تنصرفُ نحو الشعب وتنوعّه و حقوقه ، والثانية تنصرف نحو الدولة وشكلها الاتحادي و نظامها السياسي . لذلك نجدُ المادة الاولى للدستور تنصُ على ان العراق دولة اتحادية ،… ونظام الحكم فيها جمهوري . بعبارة اخرى ،ليس جزافاً ، وردَ في نص المادة 3 استخدام العراق بلد … و تجنّبت السلطة التأسيسية للدستور استخدام عبارة ” دولة متعددة القوميات … وتجدر الاشارة كملاحظة قانونية بانني استخدم مصطلح ” السلطة التأسيسية للدستور ولم استخدم مصطلح المُشّرع ،لأن مصطلح المشرع يخّصُ تشريع القوانين ،بينما مصطلح ” السلطة التأسيسية للدستور ” يخصُّ اللجنة او اللجان التي اختصت بأعداد وكتابة وصياغة الدستور .و هذا ما معمول به في مدارس الفكر والفقه الدستوري في فرنسا . بعبارة اخرى ،القانون تشريع ولكن الدستور ليس تشريع وانما تأسيس او كتابة او صياغة .لذلك ،لا نقلْ و لانقرأ او نسمع مصطلح او عبارة تشريع الدستور وانما نقل او نقرأ او نسمع دائماً عبارة ” تأسيس او كتابة او صياغة الدستور ” .
أضفُ إلى ما تقدّم ، انَّ المادة رقم 2 ،ثانياً من الدستور نصّت على ما يلي : ” يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي ، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة و الممارسة الدينية، كالمسيحيين و الايزيديين و الصابئة المندائيين “.
هذا النص الدستوري يُظهر و بوضوح بانَّ السلطة التأسيسيّة للدستور أعتبرت المواطنين العراقيين المسيحيين و الايزيديين و المندائيين طوائف وليس قوميات ، ونصّت على ضمان كامل الحرية في المعتقد و ضمان كامل الحريات في ممارسة طقوس المعتقد .
و أمر اعتبارهم طوائف وليس قوميات لا ينتقصُ بتاياً من خصوصية هويتهم و انتماءهم الطائفي او القومي ، وفوق هذا و ذاك ، و اهم من هذا و ذاك هو انتماءهم الوطني او هويتهم الوطنية ، والتي ينبغي ان تعلو و تسموا فوق اي انتماء آخر قومي او مذهبي او طائفي .
والاعتزاز بالانتماء الوطني هو ،للعلم ،سمة حضارية ، وخصال وفاء لرابطة الدم و لتربة الوطن .
حسب رأي المتواضع ،و حسب معرفتي ،كمشارك بصفة مستشار للجان التأسيسية للدستور ، الدستور الاتحادي العراقي لم يعتبرُ الآيزيديين و لا الصابيئيين و لا المسيحيين كقوميات ، وانما كطوائف . وعند الرجوع إلى الكتب المختصة عن الايزيديّة ،نجدُ تعدًد و اختلاف الآراء ؛ البعض ينظرُ لهم كقوميّة ( من ضمنهم أمير اليزيدية تحسين بيك ) البعض الآخر يعتبرهم طائفة و ديانة ( من بينهم القس إسحاق البرطلي) . حتى الايزيديين في العراق ،نجدهم ازاء السؤال ديانة ام قومية ، منقسمين إلى ثلاث فئات : فئة ترى ان الايزيدية هي ديانة و قوميّة مستقلة و اخرى ترى انها ديانة و قومية كردية ، في حين قسم ثالث من الايزيدية يرون انفسهم عرب القومية كالذين يسكنون بعشيقة و بحزاني .
دعونا نناقش الموضوع من ناحية فكرية وعملية .
في شهر ايلول عام 2002 ,شاركت في مؤتمر دولي في مدينة Rennes , في فرنسا ،وكان موضوع المؤتمر هو : هويات او انتماءات و ديمقراطية ،نظّمته جامعات المدينة وبالتعاون مع الحكومة المحلية و …
طُرحت و نوقشت اسئلة منها : هل تعدد الهويات و المطالبة بتقنين الانتماءات تمثل خطر على الديمقراطية ؟
هل نعتبرها رفض للتضامن والتعاون بين امة متكونّة من قوميات وهويات متعدّدة ؟ هل ننظر اليها وكأنها نوع من العنصرية ؟
و ربما بالعكس ،ممكن ان نعتبرها صيانة وضمان لحقوق الاقليات ،التي غالباً ما تكون مصادرة من قبل الأكثرية ؟
هل ممكن اعتبارها تعزيز للديمقراطية ؟
كل المُداخلات ،و الأجوبة على التساؤلات ، وضعت في مؤلف بعنوان ” انتماءات و ديمقراطية ” ،Identités et Démocratie ” ، Diversité Culturelle et Mondialisation.تنوع ثقافي وعولمة . صدر الكتاب عام 2003 ، المطابع الجامعية لمدينة Rennes .
الغرض من الاستشهاد بمواضيع هذا المؤتمر هو أنَّ التنوّع القومي لشعب او لأمّة ” سلاح ذو حديّن ” ،ممكن ان يكون هذا التنوع اثراء للمجتمع و تعزيز للدولة ، وممكن ان يكون وباء على المجتمع و اداة تفكيك للدولة . و الفاصل بين هذا الحد و ذاك الحّد من السلاح هو دستور الدولة ونظامها السياسي و حكمها ( ديمقراطي او ديكتاتوري ) ، و التطبيقات ،على ارض الواقع ،لما هو موضوع من دستور وتشريعات و أنظمة و سلوكيات .
و القومية لأقلية او لفئة او لشعب لا تُمنح و لا تؤسّسْ بقانون ! لم نشهد ( حسب علمي ) تجربة في دولة ما او لشعب ما ، تصدرُ تشريع لتجعل فئة من الشعب ” قوميّة ” ! الدول او الشعوب تعبّر عن قوميتها من خلال مقومات الدولة او الشعب ، وهي السيادة وتفصيلاتها و الارض و السلطة و الشعب .
القومية لا تُعطى بقانون و انما تفرض وجودها من خلال شعور من ينتمي اليها ،ومن خلال تراكمات تأريخية ثقافية و اجتماعية و لغويّة الخ … . وهذا ما يشعرُ به ( كما أظّنُ ) المواطنون الايزيديين في العراق . هل هم بحاجة إلى قانون للاعتراف بأنتمائهم ام بحاجة إلى قانون يعترف بتعرضهم للإبادة من قبل عصابات داعش الإرهابية ؟ الأمران مختلفان . فاذا كان الايزيديون مختلفين فيما بينهم عن قوميتهم ( إيزيدية،ام كردية ام عربية ) فإنهم بلا شك متفقون تماماً على عراقيتهم وعلى ديانتهم وعلى تعرضهم للإبادة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى