د. عدنان منصور يكتب:مستنقع غزة وطريق «إسرائيل» الطويل!
د. عدنان منصور يكتب:مستنقع غزة وطريق «إسرائيل» الطويل!
ليس بالأمر أسهل ان يتكلّم رئيس أركان الجيش «الإسرائيلي» هرزي هاليفي يوم 17 آذار/ مارس الماضي، بعد خمسة أشهر ونصف الشهر من بدء العدوان «الإسرائيلي» الواسع النطاق على قطاع غزة، ليقول «إنّ الطريق طويل أمام «إسرائيل» لتحقيق أهداف الحرب… وإننا فشلنا في السابع من أكتوبر، والمسؤولية أتحمّلها شخصياً».
منذ تأسيس الكيان المؤقت عام 1948، لم يكن طريق «إسرائيل» العسكري في حروبها مع العرب شائكاً وهي تخوضها مع دول عربية، حيث كان لها على الدوام التفوّق النوعي والحسم العسكري السريع خلال أيام قليلة، ليصدم العالم ويثبت بعد ذلك أقدام العدو في المناطق المحتلة الجديدة.
على الرغم من وقوف الولايات المتحدة والقادة الأوروبيين الى جانب «إسرائيل» في حربها على غزة، وتزويد واشنطن لها بكلّ ما تحتاجه من معدات عسكرية، ومساعدات مالية، ومشاركة لوجستية واستخبارية، وإعلامية، واستدعاء 320 الف احتياطي، وتدمير شبه كامل للقطاع، وقتل وجرح أكثر من مئة ألف شهيد وجريح، لا يزال هاليفي ينتظر على «الطريق الطويل»، وهو في مواجهة المقاومات الممتدة من العراق الى لبنان وفلسطين واليمن، إذ فضحت وعرّت مقاومة الفلسطينيين الكيان على أرض غزة، لتقول لقادة «إسرائيل»، إنّ الزمن بعد عام 2006 قد تحوّل، وما كان عليه عام 1956، و1967، و1973، و1996 و2008-2009، و2012، و2014، لم يعد يجدي مع التحوّلات النوعية والوعي القومي، والإصرار على مواجهة العدوان والاحتلال مهما كلّف ذلك من تضحيات.
بعد خمسة أشهر ونصف الشهر، تجد «إسرائيل» نفسها تتخبّط، وتتمزّق من الداخل، حيث تستحكم الخلافات بين السياسيين والعسكريين والأحزاب، ها هو الوزير غدعون ساحر يهدّد بالانسحاب من الحكومة اذا لم ينضمّ الى مجلس الحرب، مع العلم أنه من أشدّ الدعاة لعزل نتنياهو، وإجراء انتخابات مبكرة.
البيانات الرسمية «الإسرائيلية» كشفت النقاب عن تداعيات الحرب وتأثيرها على الاقتصاد»الإسرائيلي»، حيث سجل الناتج القومي الخام في الربع الأخير من عام 2023، تراجعاً بمقدار 19.4%.
ورغم انّ النمو الاقتصادي سجل نسبة 2%، إلا أنه تراجع عن عام 2022 الذي سجل نمواً قدره 6.5%.
تشير البيانات «الإسرائيلية» أيضاً الى أنّ 20% من الإسرائيليين يعانون من تراجع القوة الشرائية الحادّ، إذ انخفض الاستهلاك إلى الثلث، مع تضاعُف نفقات الدولة بسبب الحرب، وتأمين إسكان عشرات الآلاف من العائلات التي أجليت عن المستوطنات. كما انّ قطاع البناء يعمل حالياً بنسبة 15% من طاقته السابقة بسبب توقف اليد العاملة الفلسطينية التي كانت تشكل ثلثي العاملين في هذا القطاع. كما أنّ البطالة والإنفاق العسكري على الحرب كانت لهما تداعياتهما السلبية المباشرة على اقتصاد «إسرائيل»، ما دفع بوكالة التصنيف الائتماني موديز Moody>s يوم 10 شباط/ فبراير 2024 للقيام بخفض التصنيف الائتماني لـ «إسرائيل» الى A2، مع نظرة موديز السلبية لمستقبل الاقتصاد «الإسرائيلي»، وتوقعها أيضاً ارتفاع أعباء الدين للكيان في الفترة المقبلة.
هذا التخفيض الذي هو الأول في «إسرائيل»، ينعكس على قدرتها على الحصول على القروض، وعلى مدى إمكانها الوفاء بالتزاماتها المالية في المواعيد المحددة! كما أنّ قرار موديز سيؤدّي الى رفع الفائدة، وانخفاض أسعار الأسهم في بورصة تل أبيب وتراجع الشيكل أمام العملات الأجنبية. إذ انّ نقطة تخفيض التصنيف الائتماني، تعني في المقابل أنّ تكلفة الدين ستقفز حتماً، فيما «إسرائيل» ستكون مضطرة لإنفاق المزيد، مما سيؤثر مباشرة على سلة دافعي الضرائب الإسرائيليين. وترى موديز أيضاً، انه لو توقفت الحرب سريعاً، فليس هناك من خطة لضمان أمن الدولة «الإسرائيلية» في المستقبل، خلافاً لما قاله نتنياهو من «أنّ انتعاش الاقتصاد سيرتفع مجدّداً حالما نربح الحرب، وسنربحها»!!.
بعد شهرين ونصف الشهر من طوفان الاقصى، كبّدت حرب غزة «إسرائيل» نفقات بلغت 18 مليار دولار، وهو مبلغ تجاوز ميزانية الدفاع بأكملها. وإذا كان النمو الاقتصادي بلغ عام 6.5% عام 2022، و2% عام 2023، فإنّ الخبراء الاقتصاديين الإسرائيليين يتوقعون أن يتوقف النمو عام 2024، هذا إنْ لم يسجل نمواً سلبياً.
يترافق الوضع السيّئ للاقتصاد «الإسرائيلي»، مع ما ذكرته صحيفة «زمان يسرائيل» بداية كانون الأول/ ديسمبر 2023، من انّ 470 ألف إسرائيلي هاجروا من الكيان منذ بداية الحرب، ولا يُعرف ما اذا كانوا سيعودون أم لا!
لقد كلفت الحرب «إسرائيل» حتى الآن أكثر من 50 مليار دولار، بعد أن شلت مرافق اقتصادية حيوية مهمة كقطاع الزراعة، والبناء، والشركات المعرفية، والسياحة، والمقاهي والمطاعم، وأماكن الترفيه، مع بطالة طالت مئات الآلاف من العاملين، بالإضافة الى إجلاء 300 ألف مستوطن من خطوط المواجهة في جنوب فلسطين وشمالها، وتأجيل الانتخابات البلدية التي كانت مقرّرة في شباط الماضي، في 14 مجلساً إقليمياً، وسلطة محلية، في مستوطنات غلاف غزة، وعلى طول الحدود مع لبنان نتيجة إجلاء مستوطني البلدات.
نتنياهو الذي يرفض حتى الآن تحمّل المسؤولية عن الفشل الذريع في السابع من أكتوبر كما فعل هاليفي وغيره، قرّر الذهاب بعيداً في حربه على غزة ولبنان حتى النصر على حدّ زعمه، فيما جيشه لم يستطع بعد خمسة أشهر ونصف الشهر من المعارك الدائرة ان يحقق أيّ هدف لمجرم الحرب، سوى الإبادة الجماعية، والتدمير الهائل الممنهج، وسياسة التجويع.
ما يريده نتنياهو من غزة هو تهجير سكانها، وهذا الأمر ليس بجديد. فسياسته تعكس ما دعا إليه صراحة مؤتمر هرتزليا في شهر كانون الثاني/ يناير عام 2001، ومؤتمر ميثاق طبريا في شهر كانون الثاني/ يناير 2002، للعمل على تهجير الفلسطينيين. علماً أنّ «إسرائيل»، ومنعاً لعودة اللاجئين، سبق لها أن سنّت قوانين عنصرية كرّست الاحتلال الإسرائيلي، وذلك عن طريق الاستيطان، والاستبدال، لتؤكد نظرية بن غوريون القائلة: «إن تدمير فلسطين شرط لقيام إسرائيل».
نتنياهو الفاقد صوابه في الداخل الإسرائيلي، ووراءه المؤسسة العسكرية لم يعد يستطيع الخروج من المستنقع، إلا بمغامرة مجنونة، ومقامرة لا رجاء منها، والذهاب بعيداً في توسيع رقعة الحرب في كامل قطاع غزة،لا سيما رفح، وفي لبنان بغية انتزاع انتصار ولو بحدّه الأدنى، ومهما كانت التكلفة الباهظة والتداعيات المدمّرة على «إسرائيل».
رغم كلّ ما قام به جيش الاحتلال، من استخدام القوة العسكرية المفرطة والمدمرة، لم يستطع أن يكسر إرادة الفلسطينيين وينهي مقاومتهم، في حين تقف شعوب العالم إلى جانبهم، وتكشف حقيقة الكيان العنصري المتوحش.
سيعرف هاليفي قريباً، أن الطريق أطول بكثير مما يتصوّر لتحقيق أهداف الحرب، إذ أنّ الصراع العربي الإسرائيلي الدائر اليوم، صراع دائم ولن يتوقف عند غزة، أكان ذلك قبل أو بعد الحرب. إنه صراع وجود، تنتصر «إسرائيل» فقط، عندما تهزم إرادة الفلسطينيين وكلّ المقاومين في هذه المنطقة. وما دام الصراع بين لص سارق للأرض، وصاحبها، فهيهات تنعم «إسرائيل» بالأمن والاستقرار، وتنتصر على صاحب الحق، وتكسر إرادته. إنها دولة مؤقتة في الجسم الفلسطيني والعربي، وإنّ شارك معها في القتل والتجويع والإبادة حلفاء، وأصدقاء، ومطبّعون، وضخوا في جسمها أوكسجين الحياة.
«أمامنا طريق طويل لتحقيق أهداف الحرب» قالها هرزي هاليفي. لكن أنفاس المقاومين وإصرارهم على التحرير، أطول بكثير من طريق هاليفي، وكلّ مجرمي الحرب في تل أبيب! وما المعارك الدائرة منذ خمسة أشهر ونصف الشهر إلا المؤشر على بداية أنهيار دولة الاحتلال، وإنْ أمعنت بالمزيد من القتل والدمار في فلسطين ولبنان.
طريق هاليفي الطويل لن يحمل النصر لـ «إسرائيل»، وإنما التآكل من الداخل، والكراهية من الخارج، والمزيد من مقاومة شعوب المنطقة للاحتلال.
إنها حرب الإرادات، ينتصر فيها مَن يملك الإرادة الأقوى. وهل هناك غير صاحب الأرض مَن يملكها أكثر؟! إنها إرادة المقاومين الفلسطينيين واللبنانيين، ستتحدّث عن نفسها، وتحدّث أخبارها للعالم كله. فترقبوا في الأسابيع المقبلة جنون مجرم الحرب نتنياهو، فوهرر «إسرائيل»، وهروبه الى الأمام بقراره المنتظر بتوسيع نطاق الحرب بغطاء أميركي. حرب يرى فيها خشبة الخلاص له، لانتشاله من المستنقع، وهي التي لن تزيده إلا غرقاً، أكان ذلك في غزة أو في لبنان.
وإنّا لمنتظرون…