أنساب

ننشر الجزء الأول من تاريخ الانساب لابن خلدون

ننشر الجزء الأول من تاريخ الانساب لابن خلدون
إن علم الأنساب هو العلم الذي يبحث في تناسل القبائل والبطون من الشعوب وتسلسل الأبناء من الآباء والجدود، وتفرع الغصون من الأصول في الشجرة البشرية بحيث يعرف الخلف عن أي سلف انحدر، والفرع عن أي أصل صدر، وفى هذا العلم من الفوائد النظرية والعملية، بل من الضرورات الشرعية والاجتماعية والأدبية والمادية، ما لا يحصى، فليس علم الأنساب بطراز مجالس يعلمه الناس لمجرد الاستطراف أو للدلالة على سعة العلم، وإنما هو علم نظري عملي معًا. عملي لأنه ضروري لأجل إثبات المواريث التي يتوقف توفيرها لأهلها على ثبوت درجة قرابة الوارث من المورث، وهذا لا يكون إلا بمعرفة النسب.
وكذلك هو ضروري لأجل الدول الراقية المهذبة التي تريد أن تعرف أصول الشعوب التي اشتملت عليها ممالكها، والخصائص التي عرف بها كل من هذه الشعوب بما يكون أعون لها على تهذيبها وحسن إدارتها، فكما أن العالم المتمدن يعنى بتدريس جغرافية البلدان من جهة أسماء البلاد ومواقعها وحاصلاتها وعدد سكانها ومقدار جباياتها، فإنه يجب أن يُعنى بمعرفة أنساب أولئك السكان وطبائعهم وعاداتهم وميزة كل جماعة منهم، وغير ذلك من المعارف التي لا يجوز أن تخلو منها هيئة بشرية راقية، ولما كان من الحقائق العلمية الثابتة المقررة عند الأطباء والحكماء، كما هي مقررة عند الأدباء والشعراء، أن الأخلاق والميول والنزعات المختلفة تتوارث كما تتوارث الأمراض والأعراض الصحية، والدماء الجارية في العروق، فقد كان لا بد من معرفة الأنساب حتى يسعى كل فريق في إصلاح نوعه بطريق الترقية والتهذيب ضمن دائرته الدموية بحسب استعدادها الفطري، لأن الاجتهاد في تنمية القرائح الطبيعية والمواهب المدنية لا يمكن أن يثمر ثمره في قبيل إذا جاء معاكسًا لاستعداده الفطري وهذه الاستعدادات أحسن دليل عليها هو علم الأنساب
فأما العرب فلا شك في أنهم في مقدمة الأمم التي تحفظ أنسابها، وتتجنب التخليط بينها، فلا تجعل الأصيل هجينًا، ولا الهجين أصيلًا، ولا تحتقر قضية الكفاءة في الزواج، بل تعض عليها بالنواجذ. ولا يقيم العربي وزنًا لشيء بقدر ما يقيم للنسب لا سيما في البوادي التي اقتضت طبيعة استقلال بعضها عن بعض، وتنافسها الدائم فيما بينها؛ أن كل قبيلة فيها تعرف نفسها، وتحصي أفرادها، وتحفظ بطونها وأفخاذها حتى تكون يدًا واحدة في وجه من يعاديها من سائر القبائل، فاقتضى ذلك أن يكون العرب علماء بأنسابهم، يحفظون سلاسلهم العائلية بصورة مدهشة لا تجدها عند غيرهم، فتجد البدوي أحيانًا يجهل أقرب الأمور إليه، ولكنه إذا سألته عن أبيه وجده ومنتسبه فإنه يسرد لك عشرين اسمًا ولا يتتعتع.
وأما في الحواضر فليس الأمر بهذه الدرجة من الضبط، وذلك لعدم الاحتياج الذي عليه البوادي من هذه الجهة، فإن الحواضر مشغولة بصناعاتها ومهنها ومتاجرها ومكفولة بالسلطان الذي يغنيها عن تماسك الفصيلة أو القبيلة، وعن اعتناء كل فريق بجمع أفراده ليقف في وجه عدوه. وكلما استبحر العمران في مصر من الأمصار قل الاعتناء بالأنساب، وصار الناس ينسبون إلى حرفهم ومهنهم، أو إلى البلاد التي جاءوا منها. وكلما قرب المجتمع من حال البداوة اشتدت العناية بالأنساب، واستفحلت العصبيات التي هي من طبيعة الاعتناء بالنسب. وقولنا إن البوادي أشد من الحواضر عناية بهذا الأمر لا يعني أن الحواضر العربية لا تقيم للأنساب وزنًا، فالعرب غالب عليهم الاحتفال بالنسب حاضرهم وباديهم، وأبناء البيوتات منهم، ولو كانوا في أشد الحواضر استبحار عمارة يحفظون أنسابهم ويقيدونها في السجلات، وكثيرًا ما يصدقونها لدى القضاة بشهادات العلماء الأعلام والعدول، ويسجلونها في المحاكم الشرعية. وإذا كانوا من آل البيت النبوي — وهو أشرف الأنساب بالنظر إلى اتصالهم بفاطمة الزهراء التي هي بضعة الرسول ﷺ، وهو أشرف الخلق — حرروا أنسابهم لدى نقباء الأشراف، وكتبوا به الكتب المؤلفة، وهذا أمر بديهي لا نزاع فيه، لأن هذا الشرف هو مما يتنافس به، ومما يستجلب لصاحبه مزايا معنوية، وأحيانًا منافع مادية، فلا يريد منتسب إلى هذا البيت الشريف أن يفقد الدليل على نسبته هذه. ولئن كان البيت النبوي هو أشرف الأنساب بالسبب الذي تقدم الكلام عليه فليس سائر بيوتات العرب من ذراري الملوك والأمراء، والأئمة والعلماء والأولياء بأقل حرصًا على حفظ أنسابهم من آل البيت الفاطمي. وجميع قريش مثلًا سواء كانوا من الطالبيين أو من غيرهم يفتخرون بنسبهم القرشي، وكذلك ذراري الأنصار من الأوس والخزرج يفتخرون بأنسابهم القحطانية، وكذلك سلائل الملوك من لخم وغسان، وأمثالهم من العرب القحطانية ليسوا بأقل حرصًا على حفظ أنسابهم من تلك البطون العدنانية الشريفة. والعرب بالإجمال سائرون في النسب على مقتضى قوله تعالى كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فكل قبيلة راضية بنسبها، تحفظ مآثر قومها، وتعتز بالاعتزاء إلى سلفها، مع أن القبيلة الثانية التي تنافسها تحفظ لها عورات ومعرات تعتبرها بها عند المفاخرة والمنافرة.
ولشدة اعتنائهم بالأنساب تجد انتصار بعضهم لبعض على نسبة درجة القرابة، فكلما كانت القبيلة أقرب كانت أولى بنصرها

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى