تعتمد قيمةُ الدول وكياناتُها السياسيةُ عادةً على مجموعةِ مبادئَ ومنطلقاتٍ في تسجيلِ هُويتِها ومظهرها النهائي الذي تظهر به للعالم، ويتم من ثَمَّ التعاملُ معها عداوةً وصداقةً بناءً على تلكم المنطلقاتِ والمبادئ، وتَكسبُ تلكم الدولُ الاحترامَ وتفقده على قدر احترامها (ذاتِها) لمبادئها ومنطلقاتها، ودرجةِ منافحتها عنها في المواقف المختلفة وتخاذلها.
لقد أبدت وما زالت السويدُ -الدولةُ- رسميًّا عِداءَها المستمر َّوالصريحَ للإسلام وأقدسِ مقدساتِه (كتابِه الطاهرِ، ورسولِه الكريم) فضلا عن أفراده، وما زالت الدولةُ السويديةُ تمارس وبِصورةٍ فجّةٍ شَتّى أصنافِ التعسف والعنصرية وإثارةِ خطابِ الكراهية ضدَّ التجمعات الإسلامية، بعباراتٍ منمقةٍ كاذبةِ الأصلِ والفرع، فاسْتَمْرَتْ سرقةَ أطفالِ المسلمين، واستقصدتهم دونَ غيرِهم بدعوى حمايتهم من آبائهم وأمهاتهم، والأطفالُ يبكون بين أذرعِ والدَيْهم وهم يُنْتَزَعُونَ منهم، في مشهدٍ فيه من الإهانة وعدمِ الانسانية ما يُقرِّبُ لنا مشهدَ فرعونَ وملإه وهم ينتزعون الأطفال من بيوتهم، فيُقَتِّلون الذكور، ويستحيون الإناث، حتى يصرن نساء فيُذْلَلْنَ، بأمر الدولة الرسمية، وليسَ فرقٌ بين القتل الحسي الجسدي والقتل الروحي الفكري والثقافي، فكلاهما قتل، وكلاهما جريمة، بل جريمةُ الأخيرِ أكبر، فالمقتولُ الأوَّلُ يَبِيد وينتهي، والمقتولُ الآخِرُ باقٍ لِيَصْلَى هو وأهلُه وبيئتُه من نار الحقد والكره الذي شُرِح به صدرُه ضد ثقافته ووالديه وبيته زورا وبهتانا، فيُغسل مخُّه ويُجَنَّدُ عُمُرَه كُلَّهُ ضد ذاته وضد مجتمعه.
إن البغض الذي تظهره دولةُ السويد حكومةً ومؤسساتٍ ضدَّ الإسلام عامةً تَجلَّى أخيرا في يومِ عيدِ المسلمين الأكبرِ (عيدِ الأضحى) الذي نعيشُ نفحاتِه، حيث قامت بعضُ (الدَّوَابِّ) بتنفيذ وعيدِها بُغْيَةَ إهانةِ المسلمين بركل المصحفِ وحرقه أمامَ مسجد ستكهولم الكبير صباحَ عيدهم، في منظر يستدعي لنا مشهدَ ما حكاه الله في كتابه من قصة المتكبرين واستفزازهم المؤمنين من قوم صالح؛ (قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لِلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِمَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُمۡ أَتَعۡلَمُونَ أَنَّ صَٰلِحٗا مُّرۡسَلٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قَالُوٓاْ إِنَّا بِمَآ أُرۡسِلَ بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ (٧٥) قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا بِٱلَّذِيٓ ءَامَنتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ (٧٦)) الأعراف.. إمعانا في الاستفزاز واستحقارا للأنفس المؤمنة العابدة، وهذا الحدث الذي نعيشه اليوم جاء بمباركة الدولة السويدية ومحكمتها العليا في قرارها بإبطال منع حرق المصحف الشريف وإهانته، لأن هذا المنع هو ضد مبدأ “حرية التعبير” الذي ينص عليه دستورها، إلا أن هذا الدستور ونص الحرية فيه يصبح مكبلا أصمَّ وأبكمَّ، بل يُعَملُ على عكس حرية التعبير في التعامل مع قضايا أخرى، فيكون المنع والتنكيل والمحاكمة لمن عَبَّرَ عن رأيه فيها، فيمنعون حرق مقدسات أوروبا (المسيحية) كالكتاب المقدس (الإنجيل) مثلا -ونحن مع المنع لا شك- لأنه جزء من ثقافتهم، والمفارقة أن “الدابَّة” أو الشخصية التي أهانت نفسها بحرق القرآن من خلفية عربية مسيحية، فامتنع عنها الإنجيل وتوجهت للقرآن لأن إهانته ديدنُ دولة السويد ودِينُها، كذلك من أمثلة ما تتعطل عنده “حرية التعبير” هو محاكمتهم كُلَّ من يشكك في محرقة الهوليكوست ونبذه بمعاداة السامية، بل تتعطل عند قضايا أحقرَ من ذلك وأحطَّ من أمثال محاربتهم لمن لا يعترف بمجتمع الميم (مجتمع المـ خـ ـا نـ يـ ث) ونبذه بالعنصرية والكراهية.
لم تتساءل دولة السويد ولا الدابَّةُ الذي أحرق المصحف الشريف ما يمنع المسلمين وهم كثر أن يقوموا بمثل ما يقوم به هذا المعتوه وأمثاله من تسفيه المعتقدات، واستفزاز الآخرين في موروثاتهم ومقدساتهم،كنحر بقرة أمام معبد للهندوس مثلا، أو حرق التلمود أمام سفارة الصهاينة في ستوكهولم، أو تدنيس بوذا أمام سفارات شرق آسيا، أو غير ذلك من تعابير استفزازية، ولو تساءلوا لأدركوا، ولو أدركوا لشعروا بالخزي والعار هم ودستورهم، ولوجدوا أن آية عظيمة في دستور المسلمين الخالد والإلهي الذي أحرقوه ودنسوه تمنع مثل هذه الممارسات المستفزة في معتقدات الآخر وتحرمها؛ (وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ) الأنعام (١٠٨)… ولولا القرآن الكريم -الدستور الأكمل- وآياته ورقيه وفخامته لانحط المسلمون حيث انحط إليه هذا الدابة والدولة السويدية من دركة سفلى، ولو اعتمد المسلمون دستور السويد وأمثاله من دساتير الغرب الوضعية لانتشرت الفوضى وعمَّتْ البلوى، ولعاش الناس في شحناء ورعب ورُهَاب وكراهية وبؤس كما يعيشه العالم اليوم في قضاياه المطروحة، ولكنه الرقي والفخامة التي يوجه إليها القرآن الكريم أتباعه المسلمين بالتعبير عن اعتراضاتهم ليس بالاستفزاز والسب والشتم ولكن بالانزواء عن سياق مستحق وأن يكون لهم وقفة معارضة اتجاهه؛ ( وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (٦٨) وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَلَٰكِن ذِكۡرَىٰ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ (٦٩) ) الأنعام، فأي رقي في التعبير وأي معانٍ سامية هذه لإيصال الاعتراض والتعبير عنه؟! هذا هو الدستور الذي قام الدابة بحرقه، وقامت الدولة السويدية بحمايته، دستور يستحق الحماية والدراسة وأخذ الفائدة منه، وإن كنا لنفاضل بينه وبين دستور السويد فإن دستور السويد الوضعي والداعي للعنف والكراهية أحق بالركل والحرق من كتاب كريم رحيم كالقرآن العظيم، ولكنه ليس مشروعا للمسلمين فوق الاعتراض، وفوق مقاطعة الجهة المحرضة كدولة السويد هنا اقتصاديا بعدم التجارة والسياحة فيها، وهو ما يجب على المسلمين اليوم أفرادا وجماعات ممارسته اتجاه دولة السويد، وأن لا يكتفوا أو ينتظروا ردة فعل دولهم، والتي قد تكون فاقدة للبوصلة وفي سبات عميق عن مقدساتهم ومبادئهم وحمايتها.
إن هذه الأفعالَ الشائنةَ ما كانت من دولةٍ رسميةٍ وتحت مظلتها فيجب أن تُقابَلَ بموقفٍ رسميٍّ من قبل الدول المسلمة ووزارات خارجيتها على قَدَرٍ من الشدة والغلظة يكفي لردعِ تكراره، ونحن نحُثُّ حكومتنا العمانية -وحكوماتِ دولنا المسلمة كافّة- على إدراك البعد الأمني الداخلي والخارجي نتيجةً طبيعيةً متوقعةً من قبل الشعوب المسلمة إن لم تجد هذه الشعوبُ فزعةً من حكوماتهم ودولهم وردَّ فعل رسميًّا يشفي صدورهم من تعدي الدول الأخرى على معتقداتهم وثقافاتهم، وأن صمتها -فضلا عن كونه موقفَ انكسارٍ وخسة لها- فإنه يُعَدُّ مشاركةً لتلكم الدولة في إهانتها لمقدسات المسلمين وتشجيعا على الإتيان بما هو أشد وأنكأ.
إن الوقاية خير من العلاج، فإن لم يكن الموقف الصارم من قبل دولنا المسلمة ضد الدول الرسمية التي تمارس الاسلاموفوبيا وتترجم ذلك في قرارتها وأفعالها الشنيعة ضد المسلمين (كدولة السويد والهند وأمثالهما) على اعتبارِ إهانةِ دولةٍ لدولة إهانةً مباشرة، تستدعي الاحتجاجَ بالبيان واستدعاء السفراء وغيره، فلا أقلَّ من أن تكون ردة فعل استباقية لتأمين سياجها ومنع الانفلات الأمني والهزات الارتدادية التي قد تولدها إهاناتُ تلكم الدول واستفزازاتها في داخلها، بقيام بعض شعبها بالانتقام لدينه وثقافته بيده، عبر سبل انتقام مختلفة، والتسهيل من ثم للمنظمات الإرهابية بإيجاد قدم في داخلها المتماسك وتفريخ قنابل بشرية ناقمة ضد الدولة المسلمة ذاتها، وذلك لتقصيرها وحكومتها عن التعبير عن غضب شعبها في إهانة مقدساته، وعن احتواء غضبهم المستحق للإهانة المتعمدة عليهم وعليها، وموقفها البارد البليد اتجاه تلكم الإهانات المتكررة من دول مارقة عن المواثيق الدولية والمعاهدات في نبذ الكراهية، وما أكثرها في أيامنا!
حفظ الله العالمين…
وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة للناس أجمعين
وكلَّ عام وأنتم بخير … والإنسانُ أين كان في سعادة واطمئنان وأمن وأمان