تاريخ ومزارات

ماردين المدينة العربية في قلب تركيا عبق التاريخ وحضارات متعاقبة

تبدو مدينة ماردين لزائرها للوهلة الأولى مدينة عربية قادمة من عمق التاريخ، وما أن تتجول في أزقتها الضيقة حتى تشعر وكأنك في الموصل أو حلب أو القدس ألسنة سكانها العربية، مساجدها وكنائسها الأثرية، أسواقها العتيقة، قلاعها الحصينة، والنقوش العربية القديمة على المباني، كلها دلائل واضحة على الجذور العربية العميقة لهذه المدينة الواقعة جنوب شرق تركيا.

ماردين والإمارات الأرتقية في الجزيرة والشام

سلط المؤرخ العراقي عماد الدين خليل الضوء في رسالته للدكتوراه التي تحولت لاحقا لكتاب بعنوان الإمارات الأرتقية في الجزيرة والشام، على العلاقة الوثيقة بين مدن الجزيرة الفراتية مثل ماردين ومدن بلاد الشام في زمن الحروب الصليبية، وكانت المواقع الجزرية من أبرز الأهداف التي سعى الصليبيون للسيطرة عليها نظرا لقربها من المنافذ المسيحية الشمالية وموقعها الحيوي المشرف على ناصية العراق والشام، وتمكن الصليبيون من إنشاء أولى إماراتهم الأربع الكبرى في الجزيرة، ومنها إمارة الرها التي لم تقل أهمية عن أنطاكية وبيت المقدس وطرابلس.

درس خليل إمارات بني أرتق في الفترة من 1072 حتى 1409م، منذ مطلع دولة السلاجقة وحتى انحسار إمبراطورية تيمورلنك، وأشار إلى دور أرتق بن أكسب في تأسيس الدولة السلجوقية، وبعد وفاته تعرض أبناؤه لفقدان إقطاعهم في القدس، لكنهم نجحوا بفضل طموحهم وولاء مقاتلي التركمان في تأسيس أولى إماراتهم في ديار بكر، وتبلور كيانهم السياسي لاحقا في إمارة ماردين وحصن كيفا.

جهود توحيد المواقع الجزرية

تزامن تأسيس إمارة بني أرتق مع إقامة عماد الدين زنكي إمارته في الموصل عام 1127م، وبدأت جهود توحيد المواقع الجزرية لمواجهة الصليبيين بإمارة موحدة، ونجح خلفه نور الدين محمود، وأكمله لاحقا صلاح الدين الأيوبي بتوحيد الجهات الشامية والمصرية لمجابهة الغزاة الصليبيين، ما ساهم في تعزيز الاستقرار السياسي والعسكري للمنطقة.

أصل المدينة وتاريخها العريق

تعود تسمية ماردين إلى اللفظة الآرامية التي تعني القلعة، ويعود تاريخ المدينة إلى العصر الآشوري في الألف الأول قبل الميلاد، ومرت المدينة بعدة حضارات وأديان سماوية مختلفة، بما في ذلك الدولة العباسية والدولة الأيوبية، لذلك تحولت العديد من قلاعها إلى جوامع على مر العصور.

شهدت المدينة في العصر الحديث ضمّها إلى تركيا عام 1923 بعد معاهدة لوزان، بعد أن كانت تحت الحكم العثماني لسنوات طويلة وخلال العصور الوسطى، كانت مركزا أسقفيا للكنائس الأرمنية الأرثوذكسية والمشرقية، والكنائس الآشورية والسريانية والكاثوليكية والكلدانية، وكان سكانها يتحدثون مزيجا من اللغات العربية والتركية والكردية والآرامية السريانية.

الموقع الجغرافي والسكان

تعد ماردين المدينة التركية السادسة والعشرين من حيث عدد السكان، ويقع بعض أجزائها على نهر دجلة حيث تحد سوريا من جهة النهر، وتتميز المدينة بثرائها بالآثار التاريخية والمعمارية المتنوعة، فضلا عن تاريخها الحضاري الغني والفريد.

دخلت ماردين تحت حكم الإمبراطورية الفارسية الثانية (الساسانيين) سنة 226م، واهتم الفرس بتحصينها واتخاذ جبالها مرتفعات دفاعية قوية ضد الرومان، ثم خضعت للسيطرة البيزنطية، وعادت للفرس عام 363م بموجب معاهدة بين الإمبراطور البيزنطي جوفيان وملك الساسانيين شابور الثاني، قبل أن يفتحها العرب المسلمون بقيادة الصحابي عياض بن غنم سنة 640م.

وتوالت أحداث المدينة بين طاعة وثورة حتى سنة 1507 حين استولى عليها الشاه إسماعيل الفارسي، واستمرت الحرب بين الفرس والعثمانيين حتى انتصر الأتراك عام 1516، وأُلحقت ماردين بديار بكر ومن ثم بغداد.

المعالم الأثرية والدينية في ماردين

ترك كل حضارة مرت على ماردين آثارها ومكانات عبادتها، ومنها كنيسة مارشمونة وكنيسة العذراء وكنيسة الزعفران وكنيسة الأربعين شهيدا، إضافة إلى السوق المسقوف ومدرسة الجنزيرية والكثير من القلاع التاريخية، كما تضم المدينة جامع الشهيدية وجامع الريحانية والجامع الكبير الذي يعد الأقدم في تركيا اليوم.

تعد ماردين موقعا أثريا محميا عالميا حسب منظمة اليونسكو منذ عام 1979، إلى جانب القدس وفينيسيا الإيطالية، كواحدة من ثلاث مدن ما زالت آثارها المعمارية محفوظة بشكل جيد حتى الآن.

ماردين في وصف الرحالة ابن بطوطة

في كتاب رحلة ابن بطوطة، وصف الرحالة المغربي مدينة ماردين بأنها مدينة عظيمة في سفح جبل، من أجمل مدن الإسلام، وأتقنها وأحسن أسواقها، مشيرا إلى الثياب المصنوعة من صوف الماعز وقلعتها الشمّاء الشهيرة على قمة جبلها، وقد أكد ابن جزي على أهمية قلعة ماردين الشهباء ووصفها بأنها من أبرز معالم المدينة التاريخية العريقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى