«قوص».. من هنا انطلقت رحلات الحجاج في العصر الأيوبي
“عبق الطيوب إلى الحبيب دعاني، فهمت دموعي والجوى أضناني، حجاج بيت الله أغبط وفدكم، من سائر البلدان والألوان”.. تحول طريق التجارة والحج في عصر الدولة الأيوبية (1171 -1250م) إلى مدينة قوص، نتيجة للحروب الصليبية التي سيطرت على شمال مصر، وموقع قوص الجغرافي، ما أدى إلى إقبال وفود الحجاج من اليمن وعدن والحبشة وبلاد المغرب الذين كانوا يقيمون بها، ليبدأوا منها رحلة الحج إلى الأراضي المقدسة.
ولذلك، كان يمثل موسم الحج بهجة الحج الروحية الموسمية الغامرة لأهالي قوص، كما كان يمثل حالة رواج تجاري بالأسواق والحوانيت التي تعمر بالسلع والبضائع المختلفة ويعم الرخاء أبناء قوص، التي تستقبل في موسم الحج الأمراء والعلماء والقضاة والفقهاء والمتصوفة والوجهاء، الذين يقضون الشهور الطوال بقوص قبل سفرهم وبعد عودتهم من الحج، ومنهم الرحالة ناصر خسرو، وابن جبير وابن بطوطة وياقوت الحموي والشريف الإدريسي، الذين أقاموا فيها وكتبوا عنها في مؤلفاتهم، كما حظيت قوص بالصفوة الأخيار الذين أقاموا فيها فترات طويلة في موسم الحج مثل أبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي ومحيي الدين بن عربي وعمر بن الفارض، كما أشار الشيخ الجليل عبدالغفار بن نوح، صاحب كتاب “الوحيد في سلوك أهل التوحيد”.
رحلة الحجاج قديما من قوص
في هذا الوقت كانت رحلة الحجاج من قوص إلى الصحراء الشرقية التي كانت تسمى صحراء عيذاب، لتصل الرحلة إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر ثم تستقل المراكب وصولا إلى ميناء جدة بالمملكة السعودية.
وقد وصف الرحالة ابن جبير طريق الحج من قوص وصفا وافيا دقيقا، فذكر أن قوافل الحجاج كانت تقوم من قوص إلى مكان فسيح محاط بالنخيل في الجهة القبلية من قوص يسمى (المبرز) يجتمع فيه الحجيج وتوزن فيه الأحمال وتشد الرحال وتجهز الإبل، الوسيلة الوحيدة للوصول إلى ميناء عيذاب (لعل هذا المكان يشبه إلى حد ما مدينة الحجاج في وقتنا الحاضر)، وكانت الإبل نوعين: نوع للحجاج الميسورين، وهي من الإبل اليمانية وفوقها المحامل بالسروج ذات الأذرع التي تحف بأركانها وتثبت فوقها مظلة تقي الراكب حرارة الشمس والجو، وكان المحمل يتسع لراكبين، يستريح فيه المسافر ويتناول ما يحتاجه من طعام وشراب ويقرأ متى شاء في مصحف أو كتاب، والنوع الثاني من الإبل للحجاج البسطاء، ليس عليها محامل أو سروج ولذلك كانوا يعانون المشقة في رحلتهم المباركة.
من قوص إلى جدة
تقوم قوافل الحج من المبرز إلى موقع للماء يعرف بالحاجر، ثم إلى موقع قلاع الضياع ثم إلى محط اللقيطة، ثم ماء العبدين الذي سمى بذلك لأن عبدين ماتا عطشا قبل وصولهما إليه، فدفنا بالمكان وسمى بهذا الاسم، وهذا المكان كان ملتقي طريق قوص – عيذاب، وطريق قنا – عيذاب، ولكن طريق قوص – عيذاب كان الأقصر والأيسر للحجاج وهو الذي سلكه ابن جبير.
يواصل ركب الحجيج السير حتى يصل إلى موضع يسمى دنقاش، ثم إلى ماء شاغب، فماء أمتان، ثم ماء ميجاج، ثم إلى ماء يسمى العشيرا، ونلاحظ أن معظم محطات الرحلة الروحية المباركة، هي عيون ماء يستظل فيها الحجيج ويرتاحون من مشقة السفر ويتزودون بالماء، ثم يسلك الحجاج طريقا رمليا سهلا يسمى الوضح، ثم إلى ماء الخبيب ومنه مباشرة إلى ميناء عيذاب، وقد قطع ابن جبير هذه المسافة إلى عيذاب في تسعة عشر يوما.
من عيذاب إلى جدة يستقل الحجاج المراكب التي كانت تسمى (الجلاب)، وهي بسيطة الصنع متينة البناء، كان يصنعها أهل عيذاب وهي وسيلتهم الوحيدة للرزق، حيث يحملون فيها الحجاج والتجار إلى جدة ويعودون بهم بعد أداء الفريضة، وكانت هذه المراكب تصل إلى جدة بعد تسعة أيام.
فما أجمل وأمتع الرحلة المباركة التي يهون من أجلها كل غال من مال، ويستطاب في سبيلها كل العناء والمشقة.