كتب – حاتم عبدالهادي السيد
يحيلنا الشاعر المصري / السَّيد زكريَّا تَوفيق في ديوانه الجميل ” البِيدُ تَدْخُلُ في الوَريدِ” إلي صحراء الوطن – منذ بداية العنوان الجميل؛ والغريب ؛والسامق- حيث البيد تدخل في الوريد ويتعمق حب البادية والأوطان لديه ليصل إلى شرايينه وقلبه . ويُصَدِّرُ الشاعر ديوانه بقصيدة : غزو القصيدة ” حيث نراه يخش إلي مرافيء الشعر ويبحث فيه عن اجابات للتساؤلات الشعرية الكبرى عبر ذاته الموزعة بالحب حول العالم والكون والحياة؛ يقول :
( صَوْتٌ تَفَتَّقَ في السَّماءِ:/ الوَقْتُ خِصْبٌ لاقْتِنَاصِ قَصِيدَةٍ،/ وَبُلُوغِ هَام ِالدَّمْعِ في سَجْفِ البُكَاءْ./ ــ مَنْ ذَا يُطاوعُني،/ ويُغْمِضُ مَا تَبَقَّى مِنْ رُؤَاهُ هُنَيْهَة ً،/ ويَسُدُّ جُوعَ شَقَاوَةِ الأَفْكَارِ.. /بِالرَّكْضِ المُبَاغِتِ في أَنَاهْ. /سَتُجِيبُ أَسْئِلَةَ المُثُوُلِ مشتـتـًا../ مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟/ لأَيْنَ تَذْهَبُ؟/ لا تُجِبْ..! / مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصِ السُّؤَالْ) .
اننا اذن أمام نصوص ذاتية منذ البداية – كما تدلل سيموطيقا العنوان ، فهو العلامة الأولى ، أو العتبة السيموطيقية التى نلج منها الى عالم الشاعر ، أوالراوى العليم، أو المخاطب ، الذى يقف فى برّية السكون، ويدعو العالم والبشر الى السكون والصمت؛ والحركة والفعل والتمرد؛ ونفض الخوف والظلم ؛ ولكن يجئ ذلك من خلال حديث الذات لديه ؛ والتى تمثّل ( المعادل الأنوى الموضوعى ) لسيميّاء النفس المفردة ، أو الذات المتفرّدة كذلك .
هذا ويمثّل الخطاب الشعرى العلاماتى مدخلاً أولياً مهمّاً لاستكناه ماورائيات المعنى الدال، دون حاجة منا الى اضافة إلغاز ، يستتبعه اغلاق فى المفاهيمية التى يتبسّط فيها الشاعر فى ايراد دلالة خطابه الشعرى، ببساطة ، وعمق شديدينٍ أيضاً .
ويبدأ الشاعر تساؤلاته الكبرى نحو تمظهرات الشعر؛ ومدى حرصه علي فتق أوار الجمال لدي القصيدة؛ فيبدأ بتساؤلات الذات نحو هذا العشق للقصيدة / الذات/ العالم؛ وكأنه يُوقفنا إلي همومنا / همومه؛ عبر أطر هذه القصيدة التي تمثل علاجُا لقروح الأيام؛ يقول 🙁 إِنّ كُنْتَ جِئْتَ إِلَى القَصِيدَةِ../ كَالفَرَاشِ مُسَلّمًا،/ هَذَا قَضَاءٌ../ لَيْسَ مِنْ فَضْلٍ ومَنْ. / بَيْتُ القَصِيدَةِ كَالوَطَنْ، / مَنْفًى إِذَا يَلْقَاكَ مِنْ كَذِبٍ تَبُوحْ./ أَوْ جِئْتَ مَلْفُوظًا وتَشْرَبُكَ الجُرُوحْ./ فَلأَيْنَ تَذْهَبُ؟! إِذْ يُلاحِقُكَ المَكَانُ… / وإِنْ أَتَتْ فِيكَ الشَّوَاطِئُ جُمْلَةً، / تُنْسِيكَ مَوْعِدَكَ المُقَدَّسَ مُكْرهًا… / مع بعض أقوال الحَكِيمْ/ إِلا إِذَا أَهْدَاكَ لُؤْلُؤَةَ البَقَاءِ، / وبَعْضَ حَلْوَى للمَرَارِ.. /ــ الوَقْتُ صَعْبٌ،/ والقَصِيدَةُ تَسْتَعِدُّ لِشَقِّ قَلْبِكَ.. / إِذْ تُنَقِّي سرَّه../ والغَارُ لمَ ْيَعْبَأْ.. / بِثَرْثَرَةِ المُكُوثِ وَلَمْ يُقَاوِمْ زَجْرَهُ./ هَلْ أَنْتَ كُفْؤٌ للتَّلَقِّي؟/ ــ لَمْ أُطِقْ صَبْرًا، / وقَايَضْتُ البَيَاضَ مُثَابِرًا، / وأَصِيحُ في صَمْتٍ / وأَقْبِضُ ضَوْءَهَا/ــ فأَنَا لَهَا، / وحَمَلْتُهَا جَهْلًا وأَشْفَقَتِ الجِبَالْ. / مَنْ لِي بِرُوحٍ تَحْتَوي هَذَا الكَمَالْ؟ / وأَقَولُ لي : /اخْرُجْ سَرِيعًا مِنْ ظِلالِكَ. / لا مَفَرَّ مِنَ القَصِيدَةِ) .
وشاعرنا يعيد طزاجة الشعر وبداوة القصيدة عبر فطرة شاعر يتخذ من التدوير الشعري إطارًا لبناء فنيات وجماليات الشعرية لديه؛ كما يعيد انتاجية القلق الوجودي والروحي والإبستمولوجي عبر الذات الموجوعة على عتبات العالم المهتريء؛ وعبر فراديس الشعر نراه يعالج آلام العالم وقروحه وجراحه التي لا تندمل؛ يقول :
البيدُ تدخل ُفي الوريدِ/ تلكَ الحياة أتيتُها../ في غَيْرِ ذِي زرعٍ أتوُهْ…/البِيدُ تَدْخُلُ في الوَريدِ بِغَير إذنٍ سَافِراتْ / والرُّوحُ كهفٌ مُوصَدٌ / وهناكَ صُبْحٌ ذابلٌ / يهوي إلى عَيْنَيْ ظلامٍ دامِسٍ /وإليهِ يَرْتكنُ السُّكاتْ / ذاك َالتلاشي أشْرَقَتْ فِيهِ الجروحُ ).
إنه يعرض لنا من خلال رؤية صحراوي هموم العالم والمجتمع؛ عبر منمنمات شعرية؛ وآهات تخرج من روحه المسجورة لتفيض علي العالم بالحب، لا الوجع. وإن كان الوجع والقلق الذاتي هو محور شعرية الديوان؛ فنراه يبحث عن الحرية؛ ويصرخ منشدًا : ( إِني اسْتَخَرْتُ اللهَ / هِيئي للخُرُوجِ إلى دَمِي/ حُرِّيةً/ صوتًا بحجم ِالرُّوحِ / نصْلًا مِنْ دُعَاءٍ، / واحمرارًا فوق َخَدِّ قَصِيدَتي/غرْسًا، حَصادًا/مُعْجَمًا ضَادًا،/وخيطًا مِنْ دِمَاءٍ نازفً للحَقِّ،/إنسانًا يُصلي آمِنًا،/نملًا يُسَبِّحُ باسْمِهِ،/استغفارَ جُنْديٍّ،/نهارًا صَامِدًا،/أصْدَاءَ فَتْح ٍواصْطِفاءً دائمًا./فاسْتفتحي /بالعَادِياتِ إذَا/ضَبَحْنَ بلا رُؤًى ) .
إن الشاعر البديع / السيد زكريا يستخدم – هنا – تقنية ” التناص الإحالي” عبر العاديات ؛ وسقيا سيدنا موسى للفتاتين؛ وإن لم يُصَرّح سوي بالرعاة ؛لكن السياق التناصي يحيلنا إلي مشهدية التناص القرآني؛ عبر رؤية شاعر يعفق حروف قصيدته ويدبجها بجمالية موشاة بحزن مرير؛ فهو يفضح عالمنا المجروح؛ لكنه يحيلنا إلى ذاته الذبيحة علي مسلخ الكون، ليتغيا جمال الشعر في إيجاد حالة من التصوف العرفاني؛ أو الولوج الذاتي لنعيش معه اللحظة الشاعرة؛ ونعبر معه قروح الأيام والعالم إلى منعطفات أكثر جمالُا، عبر لغة تطيعه؛ وصور فنية غاية في السموق والجمال والإدهاش .
وشاعرنا شديد الإعتزاز بذاته؛ فنراه يركب جواد الذات ويبارز الحياة والصقيع والهموم بسيف الإرادة؛ والصبر والحب؛ لكنه ينعى الجميع ويدينهم؛ وكأنه يحيلنا إلى الذات العربية المأزومة ؛وجبن وتخاذل الحكومات أمام طموح الشعوب المستنفرة لبزوغ فجر الحرية والتحرر من ربقة التبعية ؛ والخوف من الطغاة؛ والأشرار؛ يقول :
( هذا جَوَادُك لم يَخُنْكَ /وإنَّما خانوك مَنْ باعوا الصِّراطَ بِجُبْنِهِمْ /لا لم يساورْهم أرقْ”).
وشاعرنا يدعو للصلاة للحكام العرب؛ بل ولكل العرب الذين استكانوا للغرب المتأمرك الصعيو أمريكي الأوروبي؛ وهو هنا يحمل مشعل التراث والحضارة ليذكر العالم بأمجاد العروبة الضالة في منافي العالم الحديث؛ وكأنه يستنطقهم ويستحلفهم ؛ويشد علي أياديهم ليقوم المارد العربي من جديد؛ لكن دون أمل سوى العار والخذلان؛ يقول : ( صَلِّي لأَجْلِ العُرْبِ يا أُخْتاهُ /ماتوا في الجلودِ //ولم يعُدْ للمُعْجزاتِ زمانُها/ليُعيدَ فينا البعْثَ /يرسِلَ في المَواتِ نبيًّا./ليلٌ بحُلاتِ البِشارة ِبالغُزاة ِمحُلِّقٌ/ما زالَ يُغْدِقُ سَكْبَهُ المسْمُومَ/في عِرْقِ العُروبةِ باسِمًا/ ونُرَتِّقُ الصَّمْتَ المقيتَ جِثيًّا./ نثَرَ المقاصِلَ في الدِّماءِ تسلُّلًا /هتكَ الحياءَ بطعنةِ العُريِ/ السُّفورِ/الموتُ فوقَ أسِنَّةِ التاجِ/ الكراسيِّ/احتفى بالخوفِ حين نذيقُه النبَضاتِ/يلعقُ، ينتشي، /ويسيرُ فوقَ/كرامتي مَرْويًّا./ما عُدْتُ ألحظُ في رجالِ عُروبتي/رجلًا يغارُ إذا انتهكتِ /ولستُ آمُلُ أنْ أرى جُنديًّا) .
ثم نراه يدعو العروبة الضالة والتي يصفها بأخته بأن لتصلي أجله كذلك؛ فهو المصدوم المخدوع؛ والمشارك بصمته وخوفه – ككل الشعوب العربية المستضعفة والمقهورة بفعل الخذلان للخائفين على الكراسي والعروش؛ يقول : ( صلِّي لأجلي أختَنا /وابكي ضميرًا في الجحيمِ أسَالَنا/ صُـبِّي صُراخَكِ والترابَ عليـَّا./ناموسُ أحمدِنا جليًّا لم يمتْ/ لكنَّهمْ ماتوا وراحتْ ريحُهم/ وغدًا يجيءُ اللهُ في مَلَكٍ بـ(كن)/فيكونُ لي ولدمعِ عينيكِ النعيمُ سَويًّا./ فنعيدُ للأوطانِ بعضَ كرامةٍ / ونعيدُ صُبْحًا للحَياةِ مُقاتلًا /فَيُميتُ ليلًا كمْ رآهُ عَصِيًّا) .