كتابنا

تاريخ القهوة عند العرب

( القهوة مشروب العرب وثروتها بعد النفط )

كتب / عبدالهادى السيد

تعتبر القهوة المشروب الأول في العالم؛ وهى تمثل ثانى أكبر سلعة تصديرية بعد النفط ؛ ومن هنا كانت أهمية القهوة ” شجرة البن ” عبر التاريخ الإنسانى. ويرجع تاريخ اكتشاف القهوة لراعي أغنام في أثيوبيا يدعي “كالدي” أو ” خالدى ” في إثيوبيا ؛ فقد لاحظ أنَّه بعد تناول التوت من شجرةٍ معيّنةٍ، أصبحت ماعزه نشطةً للغاية لدرجة أنّهم لم يرغبوا في النوم ليلاً ، ولقد أبلغ “كالدي” النتائج التي توصل إليها إلى رئيس الدير المحلي، الذي تناول بدوره مشروباً من توت القهوة، ليكتشف أنّه ظلّ في حالة صحوةٍ خلال ساعاتٍ طويلةٍ من صلاة العشاء. ولقد شارك رئيس الدير اكتشافه مع الرهبان الآخرين في الدير، وبدأت معرفة التوت المُنشّط بالانتشار؛ ويعتبر فنجان ” كالدى ” أول فنجان قهوة يشربه مواطن في التاريخ ، ثم انتقلت في القرن السادس عشر إلى اليمن، وإلى الجزيرة العربية ومصر والشام في بداية القرن العاشر الميلادى ؛ ثم بدأت اليمن تزرع البن بكثرة، منذ القرن الخامس عشر في الأديرة الصوفية وبحلول القرن السادس عشر أصبحت القهوة معروفة في بلاد فارس ومصر وسوريا وتركيا والقرن الإفريقى؛ ثم انتقلت إلى بقية الشرق الأوسط وجنوب الهند ، ثم انتشرت القهوة فى البلقان، وإيطاليا وبقية أوروبا إلى جنوب شرق آسيا ثم إلى أمريكا.والملكة المتحدة، وبقية دول العالم .

وما يعنينا هنا أن مصر عرفت القهوة مبكراً ، قبل أوروبا، منذ بداية القرن السادس عشر، إلا أنها لم تنتشر بقوة نتيجة قوة سطوة رجال الدين الذين تشككوا في أمرها، وأصدروا فتاواهم بتحريم شربها فى الأماكن العامة؛ ويعتبر من يجاهر بشربها آثم؛ بإعتبار أنها ” نبيذ العرب ” ، – كما كانوا يطلقون عليها – وهذا ما جعل أمر التحريم أكثر تصديقاً من باب ” درء الشبهات بالرفض ” لكنها بدأت في الإنتشار منذ عهد الدولة العثمانية كذلك، واقتصر شربها في مجالس رجال الصوفية ؛ لتساعدهم على السهر والتضرع إلى الله في خلواتهم، كما انتشرت في القلاع والحصون ، وبين السادة ورجال الحرب، لأنهم وجدوا فيها منشطاً عند قيامهم بأعمال التدريب العسكرية .

ولقد أشتهرت القهوة في مصر – بعد ذلك – بوقت قصير ؛ بمجىء الطلاب اليمنيين الذين كانوا يأتون للدراسة في الأزهر الشريف؛ حيث لاحظ الطلاب أن اليمينيين يتناولون مشروباً يساعدهم على السهر، وقوة الإستذكار،فتذوقوه فأعجبهم وبدأوا يتناولونه؛ ثم انتشر بسرعة البرق في مصر؛ وبدأ التجار يستوردونه ؛ بل ويطلبونه من التجار اليمنيين الذين كانوا يجيئون لمصر آنذاك .

ومن الطريف أن تقوم حرب أهلية في مصر بسبب القهوة فيما عرف ” بحرب القهوة ” ، حيث قام أحد المشايخ بتحريمها ، فقام الهالى بتحطيم الأماكن العامة وتدخلت الشرطة، وتم قتل أحد الشبان، فقامت الإحتجاجات ، بل أن التجار تجمهروا أمام سرادق العزاء للشاب المقتول ، وشربوا القهوة سادة، وانتشرت بعد تلك الواقعة شربها في المآتم، وتفاقمت الإضطرابات في مصر بسبب القهوة التى أصبحت مشروب كثيرين من سكان مصر ،ووصل الأمر إلى السلطان العثمانى في أسطنبول فأمر بشربها؛ ثم كانت تقدم في الأماكن العامة؛ وتم اضافتها كمشروب رئيس في المقاهى الشعبية؛ ثم في الكافتيريات العامة والخاصة، وانتشر شربها بين كافة طبقات الشعب .

إلا إن شرب القهوة قد كان مثار جدل فقهى قبل ذلك ، ولعل القواميس اللغوية العربية قد عرفت القهوة بمعنى ” الخمر “، ففى ” القاموس المحيط” عرفت القَهْوَةُ بمعنى : الخَمْرُ”، “وأقْهَى: دامَ على شُرْبِ القَهْوَةِ”، وجاء في لسان العرب: “والقَهْوة الخمر، سميت بذلك لأنها تُقْهِي شاربها عن الطعام أَي تذهب بشهوته”. وقد عرَّف جمال الدين القاسمي القهوة بأنها “مشروب الكتّاب والمدرسين، والمطالعين للكتب، والمعلمين للعلوم الأدبية والصناعية، والشعراء وأهل الأدب. ولعل هذه التعريفات كانت أحد أسباب تحريم القهوة لدى علماء الدين في مصر .

ولقد تبارى الشعراء في وصف القهوة ومنافعها، وعددوا صفاتها ومناقبها، ووصفوها بأنه ” قهوة الحب ” تارة، و ” مشروب الجمال ” تارة أخرى ، وقال أحد شعراء مصر آنذاك متغزلاً فيها :

قم واسقنى قهوة بُنِّيَةً فَضَحَتْ بنتَ الدِّنان وشَنِّف لى الفناجينا

من كفِّ ظبى رشيق القَدِّ ذى حَوَرٍ نادنه عَشَّاقَةٌ يا إِلْفَ ناجينا

تدعو إلى نحو ما فيه البقاء ولو دعت إلى نحو ما فيه الفَنَا جِينا

لو أن ألف امرىء طاف بساحتها راموا النجاة وجدت الألفَ ناجينا .

وإذا عدنا إلى التاريخ العربى عام 430م ، وإلى دواوين الشعراء سنجد أن الشاعر “أحيحة بن الجُلاح الأوسي” قد ذكر القهوة في أشعاره، وعرفها بأنها الخمر فقال :

لِتَبكِني قَينَةٌ وَمَزهَرُها وَلتَبكِني “قَهوَةٌ” وَشارِبُها

وَلتَبكِني ناقَةٌ إِذا رَحَلَت وَغابَ في سَردَحٍ مَناكِبُها

وبحلول عام 1414، كانت القهوة معروفة في مكة المكرمة، وفي أوائل القرن الخامس عشر كانت تنتشر في الدولة المملوكية بمصر وشمال أفريقيا من ميناء المخا اليمني. ولارتباطها بالصوفية، نشأ عدد لا يحصى من المقاهي في مصر حول جامعة الأزهر.هذه المقاهي فتحت أيضا في سوريا، وخاصة في مدينة حلب العالمية، ثم في اسطنبول، عاصمة الإمبراطورية العثمانية، في عام 1554، ولقد ارتبطت القهوة في مصر بالمقهى، وجلس الشعراء، وكبار أصحاب البلاط، والمثقفين، والتجار على المقاهى ليشربون القهوة والشاى، والأرجيلة ( الشيشة ) كذلك، ومن هنا أصبحت القهوة مؤصلة تراثياً ، وممتدة في الوجود الإنسانى حتى عصرنا الحديث .

ولقد تمت زراعة القهوة في صعيد مصر، وفى الجيزة؛ وتم جلب الشتلات من البرازيل التى تعد أكبر منتج للقهوة في العالم؛ إلا أن الإمام ” رفاعة رافع الطهطاوى ” قد عارض زراعتها في مصر، بإعتبار إن المصريين يشربوها تلذذاً وكيفاً كالدخان ، ولقد أكد رأى رفاعة ما جاء في كتاب ابن الخطيب المسمى : ” الملحوظات ” انه لابد من استبدال زراعة شجرة البن المحرمة بأشجار المارينوس ” التى تصلح ” لتربية الماشية،ولعل هذا ما حدا كثير من الشعراء لهجاء ابن الخطيب، فقا أحدهم :

قهوة البن حُرِّمَتْ فاحتسوا قهوة الزبيب

ثم طٍيبوا وعربدوا واصفعوا لى قفا الخطيب

ورد آخر يقول مرتجزاً :

قهوة البن حرمت فاشربوا قهوة العنب

ثم قوموا وعربدوا واصفعوا من هو السبب

ولعل ارتباط فقهاء مصر بالحجاز قد جعل الفتاوى الفقهية تكاد تتشابه في تحريم القهوة، فقد ذكر أ/ محمد الأرناؤوط في كتابه : ” التاريخ الثقافى للقهوة والمقاهى” – في الحجاز ومصر-: ؛بأن كانت القهوة تكانت ُشرب في جوار الحرم الشريف في ليلة الإحتفال بذكرى ” المولد النبوى الشريف “، وظهرت الأماكن التى تُوّفرُ أدواتٍ للتسلية، مثل الشطرنج والرهن والقمار؛ مما دعى العلماء إلى اجتماع فورى عرف بإسم : “واقعة مكة” عام 1511م وصدرت فتاوى الحسبة يوم 22/23 عام 1511م، على المتعاطين للقهوة. اجتماعاً، لتحديد الحكم الشرعي من شرب القهوة.

وقد خرج أولئك الفقهاء من اجتماعهم بنتيجة سمحت لهم بالتفريق بين حكم القهوة وما صاحبها من مظاهر، فقالوا بتحريم الهيئة التي كانت تُصاحب شُرْبَ القهوة، وأقروا بأن المادة التي تصنع منها القهوة (البن) حلال، لأن حكمها كحكم النبات، أما تحديد الضرر الصحي فتركوا القرار فيه للأطباء، وقد شهد حينها طبيبان بأن مشروب (قشر البن) “بارد يابس مفسد للبدن المعتدل

ورغم ذلك؛ احتدم الخلاف حول القهوة مجددًا، فقد انقسم الفقهاء إلى فريقين؛ مَالَ الأول إلى تحريمها، بينما فضّل الثاني تحليلها، وقد كان من المعارضين للقهوة: القاضي ابن الشحنة الحنبلي، والشيخ الحكمي الكازرومي، أما المؤيدون للقهوة فمنهم: الشيخ محمد البكري الصديقي، الذي يقول ::

أقولُ لمن ضاقَ بالهمّ صدرُه وأصبحَ من كثر التشاغل في فكرِ

عليك بشرب الصالحين فإنه شرابٌ طهورٌ سامي الذكرِ والقدرِ

فمطبوخ قشر البن قد شاعَ ذكرُه عليك به تنجُو من الهمّ في الصدرِ.

وفي مصر كان الخلاف محتدماً بعد اندلاع فتنة 1534م. ولقد تمت إحالة أمر القهوة إلى قاضي القضاة محمد بن إلياس الحنفي، فأمر بطبخ القهوة، وسقى جماعات كؤوسًا منها، ليختبر مدى تأثيرها عليهم، فلم يلحظ شيئًا، فأقرها على حالها، وهكذا رجحت كفة المؤيدين للقهوة، فكتب الشاعر إبراهيم ابن المبلط (ت: 1583م) قصيدة يقول فيها :

أرى قهوة البّن في عصرنا على شربها النّاس قد أجمعوا

وصارت لشـرابها عـادة وليست تضـرّ ولا تنفـعُ

وبهذه الفتاوى الأخيرة تم اعتبارها أمر متروك للعامة في مصر؛ فلم يحرمها القاضى، ولم يحللها ، وترك أمرها مشاعاً بين الناس .

إن تاريخ القهوة تاريخ طريف جداً ، بل هو تاريخ طويل ، وقديم، وتسيدت القهوة عروش السلاطين، وأصبحت ” شراب الملوك ” تقدم في السلطانيات العامة، وفى قصور أصحاب البلاط، كما انتشرت في المقاهى الشعبية، ولم تعد ” نبيذ العرب ” ، بل مشروب المصريين والعرب والعالم كذلك .

سظل تاريخ القهوة حافلاً بالقصص والأشعار، وبمجالس الأدباء والسُّمار، وفى قصور السلاطين والرؤساء، بل أصبحت القهوة العربية – الآن – صفة لأى مجلس عربى، بل علامة على تميز العرب في صناعتهم للقهوة، حيث صنعوا لها البكارج والأوانى والفناجين الخاصة، وقَلَّ من لم نجد في بيته ” بكرجاً للقهوة ” ، بل تفننوا في صناعتها ، وشربها في سامرهم الليلى؛ على أضواء النار المشتعلة، وفى سباقات الهجن ، وانتشرت في الدول العربية، وفى كل أرجاء العالم .

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى