تاريخ ومزارات

نفيسة البيضا” أم المماليك التي أثرت قلوب المصريين ..عاشت في الظل.. ماتت في الذل

كتب / حسين الهوارى

“ذات الحجاب الرفيع والستر الحصين المنيع ،الدرة القاهرة المخزونة والجوهرة الزاهرة المكنونة .. الست نفيسة” ..

هي “الست نفيسة البيضا” وقد وصفت بالبيضاء لشدة بياض بشرتها ونضارتها وجمالها الخلاب، كانت امرأة فريدة جمعت بين الجمال البارع والذكاء المتوقد ..

هى نفيسة قادن بنت عبد الله البيضاء (أم المماليك) ولدت عام 1743م، كانت من أغنى أغنياء مصر. أتت نفيسة جارية شركسية إلى مصر في بعض سنوات القرن الثاني عشر للهجرة “18م” ،وقد اشتراها رجل مصر القوي آنذاك “علي بك الكبير” كبير طائفة الشراكسة في القوة العسكرية التركية بالقاهرة والذي صار “شيخاً للبلد” ..

افتتن الشيخ بجمال وثقافة جاريته فقرر أن يعتقها ويتزوجها في وقت كان يسعى فيه للاستقلال بحكم مصر عن الدولة العثمانية وكاد الرجل يصل لبغيته لولا أن أدركته مؤامرة عثمانية ألبت عليه صهره وساعده الأيمن “محمد بك أبا الذهب” الذي قاد تمرداً مملوكياً ضده وهو بجبهات القتال بالشام، ونال جزاء ذلك منصب “شيخ البلد” ..أصبحت “نفيسة البيضا” أرملة، لكنها لم تدخل فيما ورثه أبو الذهب عن سيده “علي بك” لأنه وافق على أن تكون زوجة للأمير مراد بك نظير مساعدته له للتخلص من زوجها فلما قتل علي بك تزوجها مراد وصارت تعرف تبعاً لذلك بنفيسة المرادية. تعايشت “نفيسة” مع وضعها الجديد ورضيت بأن تكون زوجة لأمير مملوكي يحكم مصر مناصفة مع قرين آخر هو “إبراهيم بك” بعد أن كانت زوجة لرجل يحلم بأن يكون ملكاً متوجاً على مصر وأجزاء من بلاد الشام ..

ولما كانت وريثة لثروة “علي بك” في زمن ولت فيه الطموحات السياسية، فقد أعادت استثمار أموالها في التجارة وصارت واحدة من أثرياء البلاد، ويكفي أنها امتلكت عدداً من القصور والبيوت ووكالات التجارة وجيشاً صغيراً مؤلفاً من 400 مملوك، وأسطولاً من السفن على النيل، و56 جارية واثنين من الخصيان في حاشية نفيسة الخاصة عن عدد كبير من الجواري والخدم في قصرها ..

في تلك الفترة بدأت شخصية نفيسة تفصح عن نفسها كسيدة على إلمام بالثقافة التركية وموحية لزوجها المتغطرس بالتخفيف من سطوته على الناس و ذاع صيتها بين المصريين عندما شيدت لنفسها “وكالة” للتجارة يجاورها “ربع” لسكنى فقراء الحرفيين، وألحقت بهما سبيلاً للماء يعلوه “كُتاب” لتعليم الأطفال الأيتام مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم ..

ويعد مشروعها المعماري الذي شيد على بعد خطوات من “بوابة المتولي” أو “باب زويلة”، من مشروعات البر والإحسان فإلى جانب إيواء فقراء الحرفيين نظير أجرة شهرية بسيطة كانت إيرادات الوكالة والربع توجه للإنفاق على وظائف التدريس بالكتاب وعلى قيام السبيل بتوفير ماء الشرب للمارة في تلك المنطقة التجارية ..

وفي عام 1798م جاءها “بونابرت” من حيث لم تحتسب ليهزم المماليك بقيادة زوجها مراد بك، ويحتل القاهرة وفر مراد نحو الصعيد تاركاً زوجته تواجه سلطات الاحتلال الفرنسي !! ولشخصيتها و لثقافتها حصلت نفيسة زوجة الأمير الطريد على احترام سلطات الاحتلال الجديدة، وذلك عندما سمحت أولاً بأن يتلقى بعض الجنود الفرنسيين من الجرحى العلاج داخل قصرها الذي ورثته عن علي بك بالأزبكية وكان مواجها لمقر إقامة بونابرت ..

وحاول بونابرت أن يستميل مراد بك للصلح معه لوقف حشد القوات ضده بالصعيد بحسن معاملة زوجه نفيسة البيضا، وبالغ الرجل في الأمر حتى أنه منحها هدية ثمينة من الحلي، لكن ذلك لم يحقق شيئاً مما كان يطمح إليه الجنرال الفرنسي ..

بدأ بونابرت بتنفيذ سياسته الانتقامية بتوجيه تهمة إخفاء ثروات المماليك الفارين للصعيد، وفتش قصرها أكثر من مرة، وصودرت بعض ممتلكاتها، ثم أعقب ذلك بالقبض على حريم أمراء المماليك، مما اضطر نفيسة البيضا لدفع الغرامات التي فرضت عليهن نظير الإفراج عنهن وصيانة كرامتهن وتجاوز ما دفعته المليون فرنك ، و عندما اشتد الطلب عليها رهنت بعضاً من مصاغها ومن ضمنه قطعة الحلي الفرنسية التي أخذها بونابرت وأهداها لعشيقته ..

ورغم ذلك ظلت نفيسة البيضا قادرة على رعاية حريم المماليك وموضع احترام سلطات الاحتلال خاصة بعد سفر بونابرت وتولي كليبر قيادة الجيش الفرنسي، وعندما نجح الأخير وربما عبر نفيسة البيضا في إقناع “مراد بك” بالتخلي عن السلاح، ورضي بأن يحكم الصعيد بوصفه نائباً عن “الفرنسيس” ..

لكن وهي تتأهب لاستقبال زوجها مراد أتاه وباء الطاعون ليحصد روحه عام 1801م،

وفي نفس العام رحل الفرنسيون عن مصر،

تزوجت بعد ذلك من إسماعيل بك آمين احتساب مصر ولم تعمر معه الكثير قبل أن يتوفى مقتولا بعد أن وهبها كل ما يملك وتزوجت من بعده الأمير ذو الفقار أمير لواء الجيش والذى توفى في صراع مع بعض المماليك البحرية، بعد زواجها بعامين ودفن بقبره في مقابر الغفير.

وحين تولى حكم مصر الوالي العثماني أحمد خورشيد باشا عام 1804، أساء إليها إساءاتٍ بالغة، وطلبها يوماً إلى القلعة مقر حكمه ووجّه إليها بعض التهم الباطلة، بينها اتهام بالتدبير لثورة في مصر، وأنها استعانت بكثير من الجواري يوزعن المنشورات ضده، وضد حكم المماليك والباشوات. وكان رد نفيسة عليه بالقول:إن السلطان وعظماء الدولة رجالاً ونساء يعرفونني، ويعرفون قدري، حتى الفرنسيون، أعدائي وأعداؤك، لم أر منهم إلا التكريم والاحترام، أما أنت فلم يوافق فعلك فعل أهل دولتك ولا غيرهم.

غضب أحمد خورشيد باشا من تلك السيدة، فاقتادها إلى السجن، الأمر الذي أثار غضب من يدينون لها بالفضل وبالمال، إذ كانت غاية في الكرم والشهامة. وقد ظلت هذه السيدة، حتى في أيام محنتها، ترعى بمعروفها وبرها، أسراً كثيرة أصابها العناء والفقر بعد أن كانت كريمة ميسورة. وامتدحها المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي خلقاً وسلوكاً وشجاعة. وعندما اعتُقِلَت في بيت السحيمي حاولت الهرب ليلاً، لكنها لم تفلح، وظلت تنتقل من عذابٍ إلى هوان إلى فقر حتى نسي الناس اسمها ورسمها ، ولاحت في الأفق بوادر ثورة شعبية ضد ظلم خورشيد ، وسرعان ما نجحت الثورة الوليدة في طرد الوالي العثماني وتعيين محمد علي عوضا عنه ..

لقيت نفيسة أشد المحن والكوارث على يد محمد علي بعد أن تولى حكم مصر عام 1805، فقد صادر محمد علي ما بقي لها من مال وعقار، وعاشت بقية أيامها في فقر وجهد، لكنها واجهت ذلك كله بصبر وقوة عزيمة، ولم تفارقها مروءتها ولا علو نفسها ولا إباؤها.

وماتت نفيسة البيضاء عجوزاً فقيرة، بعد أن كانت ملكة على مصر، وذلك في يوم الخميس 19 إبريل عام 1816 في بيتها الذي بناه لها علي بك الكبير. ووريت نفيسة الثرى إلى جوار قبر زوجها الأول علي بك الكبير في الإمام الشافعي. وبعد موتها استولى محمد علي باشا على هذا البيت وأسكن فيه بعض أكابر دولته.

وقد تركت نفيسة البيضا مجموعة معمارية متكاملة هي نموذج رائع للعمارة العثمانية المتأخرة ، تقع بالطرف الجنوبي من شارع المعز لدين الله داخل باب زويلة، وهي تتألف من وكالة و ربع وسبيل يعلوه كُتاب، وكانت تعرف إجمالاً باسم “السكرية” نسبة لسوق تجار السكر والحلوى بتلك البقعة.كما يعد “سبيل نفيسة البيضا” ، أبرز مكونات هذه المجموعة.

انها هى نفيسه البيضا “عاشت في الظل.. ماتت في الذل”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى