سوريالية التجريد وقصيدة المعنى “قراءة ما بعد حداثية”..مختارات إبراهيم داود
حاتم عبدالهادي السيد
تتألق اللغة وتتمكيج، وتصفو، لتعيد رونقها عبر القصيدة التي تتغيا مقصوديات، وترميزات تجريدية، عبر سوريالية تشبه شجرة صيف عرتها أوراق الخريف، وجردتها من اوراقها الخضراء لكنها غدت لوحة تشكيلية للعراء، ولفضاءات المخيال السيمولوجي الرامز، وفى ” قصيدة المعنى ” – التي أنتهج وجوديتها، كمساحة تتشكل من رحم ” قصيدة النثر”؛ أو بين المساحة الأولى المابينية بين الشعر المنثور وقصيدة النثر، نلمح أولى تشكلات هذه القصيدة المابعد حداثية، والتى تتغيا اللغة كوسيلة لتراسل الحواس، عبر صور سوريالية، ومساحات البياض على الأوراق البيضاء، والتي تشكل عجينة تكوينية لقصيدة المعنى التي أتغياها عبر قصائد ديوان / مختارات الشاعر الشاهق / ابراهيم داود : “كن شجاعاً هذه المرة ” .
أما “قصيدة المعنى ” التي – أصطلحها – فهي القصيدة التى تعتمد الموضوع كمحرك لسياق فضاءات القصيدة، وتعتمد المعنى الماورائي للمعنى المباشر، كما تعتمد الإزاحة للوصول إلى المعنى الذى يتقصده الشاعر، كما تعتمد الإيجاز، وتعالقات المعنى ” التضمين الاحالي ” للوصول إلى غائية المعنى الذى يتقصده ؛ وهى قصيدة تعتمد خفوت الموسيقا إلى أقصى حد، وتجرد الموضوع ” كشجرة سوريالية، أو شجرة عراها الخريف؛ لكنها تشى بجمال الوضوح رغم عراء المنظر من الأوراق الخضراء، وهى قصيدة تعتمد تراكمات المعنى وترميزيته للوصول إلى غاية ذاتية: ” صوفية الذات ” عبر الفطرة التى تتجرد لتشى بحقيقة الجمال الإنساني عبر اليقين، والبرهان، والتصوف الذاتي؛ وتلك – لعمرى – أبرز خصيصات القصيدة المابعد حداثية- التى أوردها هنا – كمعطى جمالي للقصيدة الجديدة التى تعتمد البلاغة الجديدة – عبر التأويل – وتتجرد بنثريتها عن الغنائية، وتخفت بموسيقاها وايقاعاتها عن قصيدة النثر، أي أن الإيقاع أقل خفوتاً ، فهى أقرب إلى الشعر المرسل – في بداياته – لكنها تتخالف معه، ومع قصيدة النثر معاً في مضامينيتهما؛ التي أوردتها سلفاً .
هذا ويشكل اللون العتبة الأولى للولوج إلى ” بين النص ” لدى الشاعر / ابراهيم داود؛ ففى قصيدته ” رائحة جديدة” تشكل الرائحة واللوان مرموزات للطبقية بين الأغنياء والفقراء، وبين سكان العشوائيات، وسكان القصور في المدن الجديدة؛ كمنا يعكس شكلة حياتية عانى منها الفقراء بسبب قرارات توحيد لون المنازل، وهم الذين رغم فقرهم صامتين، وربما فر الأغنياء، وفروا هم إلى النهر، لكن الرائحة ظلت تتابعهم في نومهم ويقظتهم، والحجة وجود زوار سيزورن المدينة القديمة، وهى عبر المعنى واحالاته الرامزة تعكس ما ورائيات المعنى كالطبقية، وصراع الحياة المرير، حيث الأثرياء لم يكتفوا بترك المدينة بل أخذوا معه الماء والشجر، وهى مقومات الحياة ليتركوها للعراء الإنساني / الكوني، ولنا أن نلمح – عبر التأويل – الذى قرأنا به القصيدة – خلف ظاهر المعنى، وما ورائيات اللغة التى تبدو الفارس الأول هنا في نسج بنائية الجملة، عبر لعبة الصورة والظلال، وتكسرات لون قزح عبر المرآة المخادعة/ المخاتلة؛ يقول : ( استيقظ الناس ذات صباح على رائحة جديدة/قيل لهم : المدينة أصبحت قديمة/وأن الطلاء الجديد ضرورىي/.. لأننا فى انتظار زائرين/مياسر الناس خرجوا الى المدن الجديدة/وأخذوا معهم الماءَ والشجرْ/وتركوا الآخرين يقاومون رائحة الطلاء الجديد/ذهبوا الى النهر/فلم يجدوا نهرا/الرائحة جلست/ولم يأت أحد/والذين خرجوا استقبلتهم رائحة أخرى/تعايشوا معها/بعد سنوات …/صار للرائحة صوت/ولَم يعد هناك من يصغى الى أحد/ولم يعد للمدينة صوت) .
إنها سوريالية اللغة؛ عبر اقتصادياتها المائزة؛ ومرموزاتها السيمولوجية، والتي تحيلنا عبر الإزاحة والتماثل، وتعالق الذهنية؛ إلى مخيال يسقط رؤيويته وحداثويته على المعنى الآخر: ” المعاني الثواني” – اللغة الثالثة – والتي أوها شيخ البلاغيين ” عبدالقاهر الجرجاني”، و”قدامة بن جعفر ” ،في كتبهم التراثية؛ لكنه استخدم ” بلاغة الإحالة / التحويلية؛ ليحيلنا إلى المعنى السيميائى، ومعادلاته الضمنية، والموضوعية، عبر فلسفة اللغة، وتراكميات المعنى، وترميزاته السيموطيقية الدالة .
ومن اللون وتشكلاته؛ إلى الغرفة العارية؛ أو الخواء الذاتي والنفسي ،لكنه زخم المعنى عبر تجريدية الصورة؛ وسورياليتها؛ كما نلحظ استخدانه لتقنية ” الـ كان “؛ ليحيلنا إلى تاريخانية قديمة؛ عبر زمان ومكان غير مُحَدَّين؛ وعبر تحليق في هيولي للعالم المحكي عنه، في الغرفة التي بلا سقف، وربما بلا جدران، سوى البساطة والرضى؛ عبر التقابلات ” وعشنا أغنياء”، وهو الغنى النفسى مقابل الخواء والعراء الفيزيائي، بما يشعرنا بكونية المكان، وما بعد حداثوية الرؤية عبر السيميائية التى تعتما معادلات للتوازن بين الفقر المادي، والغنى النفسي : القناعة والرضى، رغم ضنك الحياة، وتقابلات المعاني؛ يقول : كانت أرض عاليةٌ هناك /وبيتٌ ونهرْ ../وأشجار تحرس الأفقَ/الأشجار كانت ضعيفةً …!/ولكنها كانت أشجاراً/وكانت غرفة عاريةٌ هناك/عاش فيها الضوء/عاش فيها الظلام/وسكنها آباؤنا /آباؤنا الفقراءُ/ وأنجبونا فيها/ وعشنا أغنياء) .
إنه المعنى الثرى، المكتنز عبر تداخل الاجناسيات، وكأنه راوٍ لحكاية الحياة/ للفقراء/ للذات الإنسانية التي تتجرد من الملذات لتحيلنا إلى العتمة والضوء، والفقر والغنى، والعراء مقابل الإمتلاء النفسي، ودلالة المعنى وظلاله الممتدة .
وتتعد تقنيات اللون والرائحة عبر قصيدة ” رفق ” : الليل .. الى وقتٍ قريبٍ//كان شاعراً/ له رائحةٌ غامضةٌ .. غامضةٌ /وطازجةٌ/…” كانت تأخذنا الى “وَسط المدينةِ/وَسطُ المدينةِ…/كان رساماً وموسيقياً/وشاعراً /.. وتجرى من تحته الأنهار/تعامل مع حماقاتنا برفقٍ ../برفقٍ/ لا يليقْ/حماقاتنا كانت ناصعةً/فى آخر المطاف) .
ولنلمح انتقالات الشاعر الأثيرة، عبر الصور التشكيلية / البصرية، وعبر فونيمات الحروف، وظلال المعاني التي تعكس المكان ؛ وتعدد الأزمنة، وتبدلات الأماكن ، عبر المخيال ، فهو ينتقل بنا من العام في الرائحة التى تجذبنا إلى وسط المدينة، ثم يبدأ في تأطير مشهدية المكان / وسط المدينة عبر شعرية اللغة المتهادية كزورق، وعبر معانى التموسق الدلالى لموسيقا الحروف المتضامَّة ، والمتقارنة، والمنتضمة عقد مسروديات الشعر الحكائي / القصة / التراث/ عالم المدينية وتحايلاتها، وعالم الشاعر ومخياله السيمولوجى الأثير .
وفى قصيدته ” زهو ” نجد المفارقة – منذ السطر الأول- عبر التعاسة؛ فأى زهو لتعسٍ، عبر اجترار الألم والدموع، ولكنه ” زهو اليقين “/ البرهان الناتج عن رضى ذاتي، ثم تجىء مفارقة النهاية : ” ويعلم الله ” لتشير إلى ” يقينية المعنى المراد ” عبر بساطة اللغة وحالاته المتدفقة، يقول : (هناكَ دائمًا ما يبرر تعاستنا/نسألُ أنفسَنا كل مرة : ومتى نجونا ؟/نستدرج الذكريات الأليمةَ/”نستدرجها كلها” ../فنشعر بالزهو/لأن الذى قطع كلَّ هذه/المسافةِ /وهو ينزفُ/لن تغلبَه تعاسات الدنيا/نحن طيبون ../ويعلمُ الله.) .
وتتوالى القصائد التي تطوع ” اللغة ” وتجعلها ” فرس رهان ” على انتضام رؤيوية المعنى لدى الشاعر، ويقظته الشاعرة التي تنشد ” تشاركية القارىْ ” عبر الراوي، بما يجعلنا نؤكد لعبة ” تكاملية الأجناس الأدبية ” في رفد القصيدة الجديدة بمدلولاتها أكثر حدساً، ويقينية، للتدليل إلى البرهان الروحي، عبر مخيال اللغة المكتنز؛ وعبر تدورات المعنى المابعد حداثي، الإحالى ؛ الذى يعتمد الإزاحة، ليزيل ” ظاهرية المعنى”، إلى ما ورائياته الكامنة فيه، وتلك لعمرى تعادلية تصنعها ” لغة الترادف”، و ” اللغة الإشارية” عبر البلاغة الجديد التى تحيلنا إلى تأول المعنى الماورائي لتعقد تشكلات رؤيوية ، اكثر حداثوية، عبر التشكيل البصرى، الذى صنعته الإزاحة، والمفارقة، والمعانى الثوانى، او المعنى الثالث الذى تصنعه الرؤيوية للبلاغة الجديدة ، بين ما هو متخيل – لدى القارىء- وبين النص / القصيدة، لنسأل عمن سرق المشار إليه في القصيدة؛ على حد رؤيوية ” رولان بارت ” ، وغيره .
وليس معنى انتصارنا للغة – هنا –إننا نتحدث عن ” قصيدة اللغة ” – فحسب – بل نضيف إليها تشكلات المعاني عبر تقنية التبادل؛ بين الصورة والظل، وتداعيات الأوان، ولا نقصد الصورة التشكيلية / البصرية، بقدر ما نركز هنا على بنية المعنى الاحالي وعلاقاته الرامزة التي نتأولها، كأفق كوني، لنتشارك والشاعر في تصورات الذهنية عنده، ونعبر بالمعنى الجمالي للصورة إلى آفاق أكثر حداثوية، كذلك.
وفى قصيدته مصابيح ” نلمح تشكيلات الصورة وأبعادها الفيزيائية، عبر هطول المعاني الثواني، وعبر تواشجات التجريدي المندغم في السوريالي، والانطلاق من الكليات إلى الجزئيات، والعكس، في تباديل، وتوافيق ؛ تصنعها ” عرائس اللغة ” عبر تشكلاتها السيمولوجية الكونية، يقول : ( قبل النهايات بخطوات/يظهر شجر كثيف/وألوان غامضة على الأرض/ولا تتغير الفصول/الذاهبون صامتون فى الطريق/على رؤوسهم الطير والفراغ/وعلى أكتافهم تظهر المدن) . وهنا يجرد الشاعر اللغة عبر اقتصادياتها المضافة، كقيمة بصرية، لتفسح لرؤيوية التصوير مجالات أكثر إشراقاً ن عبر ” كونية المعنى “، وما ورائيات الظلال التي تمثل القيامة / الطبيعة / بداية ونهاية الأبدية / الحياة / الظلال/ الواقع؛ وغير ذلك؛ يقول : (قبل النهايات بخطوات/تتكاثر المدن/والمصابيح/ .. ويقل الماء) . وكأننا أمام بدائية أولى للحياة/ ونهاية لقيامة الأشياء في نفس الوقت؛ فهى صورة تتكلم، عبر ” رقمنة مغايرة ” ؛ وعبر مشاهداتية تصفيها إلى حالتها المتبداة : الجديدة، حيث يقل الماء، وكأننا نوشك على الإنتهاء / العراء/ عبر المعاني التي تتوالد عبر الصورة البصرية المتشكلة، وعلاقاتها التبادلية التي تخلق التوتر، وتحدد مشروعيات للجمال الفيزيائي، وللصورة الفيزيقية المتراءاة .
كما يستخدم الشاعر ” بنائية التكرار ” للولوج إلى معانٍ جديدة في قصائده المتتالية : عودة، نزوح، الباقون، قسوة، كما يعتمد ” تقنيات المشهدية”، ” السرد اليومي”، ” والاتكاء على الذات ” في قصائده : سد ، شجاعة، كما يستدعى ” ميثيولوجيا ” السياسة، وترادفات لفظة النيل ” ليحيلنا إلى واقع معاش، عبر مرموزات متتابعة، أيقونية، فهو لا يأدلج القصيدة ، بل يصنع لها عدة مرافىء لتعبر اللغة والصورة إلى المعنى المختفي؛ أو ” المعنى السرَّي ” الذى تغياه ، هو، وتأولنا نحن ؛ عبر فيوضات المخيال الكوني، واحالاته السيموطيقية التي تحيلنا إلى الذات، والكون والعالم والحياة .
ولنقف قليلاً عند قصيدته ” شجاعة ” والتي تفكك ” شيفرة عنوان الديوان : ” كن شجاعاً هذه المرة ” لترمم العجز، وانكسارات الذات أمام ” العربة الكونية للحياة ” ، ولعله – هنا – ينشد ” كونية العالم ” عبر فعل الأمر ” اخرج” وعبر البراح الفيزيائى، أو الخروج من سدم الواقع إلى مابعديات الجنون / الحلم / ماوراء الواقع، وشيفونيته الأثيرة، ولنورد ” ايرادات المعاني ” : و ” تشابكات الظلال والألوان : ، فهي تجمع المعطى الكوني والذاتي، والابستمولوجي لتشكل ” فلسفة قصيدة المعنى الجديدة” / فلسفة الشاعر ملتبسة بالوجود الكوني، والفراغ، لا معنية بكتلة، ولا مُحدَّة بزمكانية تؤطرها خلف ” أيديولوجيات ” النوع النووي ” ؛ بل تعبر سدم الكون والمجرات إلى ثقوب متناثرة في أطراف العالم المتشظي، وتصنع بنائيتها / عبر التفكيك / العراء / المعاني والظلال، يقول :
( توجدُ حواجز بداخلِك / وبنادقُ مصوبةٌ من مكانٍ ما/ولا يوجد زيتٌ في البيت !/الكواكبُ القريبةُ اقتربت من الأرض/واحتشدت الأمراضُ على أولِ الشارع/أنتَ في غرفتِك /تشتاقُ إلى بلادِكَ في النهار /وتدعو لها بالليلولا تصنع شيئًا آخر/اخرجْ/تكلَّمْ مع المحيطاتِ عن الطيور/عن الأحزانِ التى تتدفقُ تحت البيوت/عن الربيع/عن إحساسِكَ القديمِ بالفقد/عن الرقص /عن الحبِّ الذى جاءَ بعد هذا العمر/عن العمر) .
ثم يجيلنا الشاعر إلى الحقيقة والبرهان – عبر التلاشي / التجريد / تراكمات المعاني الاحالية، وظلال الألوان / ظلال الحياة، حيث يعتد رؤية الشوف، كمتصوف يصنع من الذات واللغة مادة للخلوة، والفرادة، عبر ” الغرفة الكونية ” / العراء / التجرد من كل شىء، ليطلق العقل لخياله المترامي، يقول ):اتركْ خيالَكَ للرياح/وطَمْئِن الغرقى على الحياة/الكواكبُ القريبةُ اقتربت/وأنت تتوارى خلفَ النشيج/لن تنفعكَ النيازك/ لن يقفَ الماضي إلى جوارِك /كُن شجاعًا هذه المرة ).
إنه يتوارى خلف النشيج، وخلف ظلال الألوان، والمعاني، ليترك لجنوح الخيال آفاقاً أكثر دهشة، عبر رؤيوية متصوف، او جوال يجر عربة الحياة إلى لا نهائي ممتد .